Search Website

الدرس (التاسع) من دروس التدبر في القرآن الكريم.. سورة العنكبوت الآيات (20-21) 

الدرس (التاسع) من دروس التدبر في القرآن الكريم.. سورة العنكبوت الآيات (20-21) 

DSC_0623

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21).

إذا دخلت مدينة عامرة وجدت البنايات مشيدة، وشوارع معبدة، والأمن مستتب، والحياة تسير بانسيابية مطلقة، فإنك لن تحصل على علم كاف بهذه المدينة. لماذا؛ لأن هذه المدينة قد دخلتها وكل شيء مكتمل أمره، أما إذا كانت مدينة إلى جنب مدينتك وقد أنشئت من جديد، وفي كل يوم ذهبت إليها ووجدت فيها عمارة تشيد، وشارع يعبد، وحياة تتجدد؛ فإن هذه المدينة في حالة صيرورة وتحول ونشأة، ذلك اليوم تحصل على علم ومعلومات دقيقة، كيف تبنى المدن! وكيف تبنى العمارات! وكيف تعبد الشوارع! لماذا؟؛ لأنك تنظر إلى الأمور وهي تنشأ وتتجدد وتتكون.

ربنا يأمرنا ويقول يا أيها الناس أنتم تنظرون إلى العالم المحيط وإلى السماء المبنية والأرض المدحية، والفلك التي تجري، تجدون كل شيء فيها كاملا، فعلينا أن نبحث كيف هذا الكامل أصبح كاملا! وكيف تكوَّن ونشأ! حتى تعرفوا مدى القدرة والتدبير في كل ذلك، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، فلا نجلس في بيوتنا ونضع بيننا وبين الحياة ستار.

قد تكون الأمور في بلدك مكتملة لكن في بلاد أخرى تنشأ من جديد، وذلك على الإنسان أن يتحرك ويبحث عن هذا الجديد.

جاءت أيام كان الحركة بين بلد وآخر تكلف الشيء الكثير عن طريق المشي أو البغال أو السفن الشراعية والطرق الصعبة، وقطاع الطرق والجبال الشاهقة والوديان العميقة، أما الأن الحياة تبدلت وفي العالم مئات المليارات -وقد تصل ترليون- يصرفها الناس على السياحة.

نلاحظ الآن في العالم والمدن والدول المتقدمة، تتنافس في الحصول على سائحين جدد، فالسياحة عندهم جزء أساسي من دخلهم القومي، ولذا كثير من الدول لديها وزارة سياحة. لماذا؟؛ لأن هناك رغبة عند الإنسان بأن يتعرف على ما حوله، فلا يقف عند قريته أو مدينته أو محيطه، وإنما يعرف العالم، وفي العالم تجارب حديثة.

هناك دولتان في العالم أهتمتا بأمر السائحين لديها، هما اليابان وأمريكا، فقد أعنت الدولة اليابانية قبل الحرب العالمية وقبل تدميرها، في أيام نشأتها فقد شجعت الناس على السياحة وبدأوا يعطون كل سائح مبلغا من المال، وإذا ما حدثت مشكلة له في الخارج فإن السفارات اليابانية كانت مكلفة رسميا بمساعدة السائحين، كما ويطالبون كلَّ سائح بإعداد تقرير عن منطقة سياحته من العادات إلى تجاربهم وإلى أخلاقهم وإلى طريقتهم وغيرها، وإذا رجع بتقرير عادي أعطوه شيئا من المال، وإذا كان في التقرير ما ينفع الشعب الياباني، فإن اليابان تصرف له معاشا إلى آخر عمره، وكل ذلك اهتماما بالعلم والخبرة، ولذا نجد اليابانيين لديهم دراسات عن الشعوب وتاريخها، فتراكمت لديهم كم هائل من خبرة الشعوب.

وهذا الدور أيضا قام به الأمريكيون في بداية نشأة أمريكا، بيد أن الله قد أمر المسلمين من قبل فقال (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، سياحة لينظر الإنسان ما على الأرض من مخلوقات وكائنات وحضارات؛ لأن كل إنسان عنده عقل وكل أمة لديها تجارب وحكمة.

إذن؛ الله تعالى يأمرنا بالسير أولا ثم بالنظر، والنظر بالمصطلح المنطقي هو النظر العميق والتأمل والتفكر لا النظر البسيط العادي وإنما الذي يحمل الدقة والملاحظة.

لماذا ننظر كيف بدأ الخلق؟

يعني كيف نشأت الحياة! ونشأ الخلق ومن أين تكون! هذه الصخور البركانية وهذه الجزر وأنواع الحيوانات والنباتات، تحتاج لدراسات عميقة، وهذه الدراسات تكشف للإنسان المعلومات الدقيقة في كيفية تطور الأمور، من تطور النباتات وتطور الأحياء البحرية والطيور والصخور.

والشيء الأهم الذي نتوصل إليه في هذه النظرة هي آيات قدرة الله سبحانه وتعالى المطلقة، ونخلق لأنفسنا رؤية عميقة تغير من حياتنا وتفكيرنا، وانظر مثلا كم عينا في البعوضة! وكم قلب عندها! وكم جهاز تحليل في جسمها الصغير! وهذه البعوضة إذا لدغتك -وأنت أكبر حجما منها بسبعين ألف مرة – فسوف تؤذيك لامحالة، (مسكين ابن آدم؛ مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل.. تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة).

إن الإنسان إذا توجه إلى خلق الله يصبح عنده رؤية تجاه عظمة الله وتدبيره، وبالتالي يقترب إلى ربه، فإذا قلت يالله فأنك بعد هذه التأمل في مخلوقات الله –مثلا- لن تقولها ككلمة عابرة، بل كلمة دقيقة لها دلال العبودية والخضوع والخشوع لله، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، إذا توجه لآيات الله عز وجل.

ولذلك ربنا يقول: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، أي تحركوا (فَانْظُرُوا)، فإذا تحركت وفتحت عينيك وقلبك( كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)، انظر إلى صيرورة الخلق (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ)، الذي بدأ بخلق من قبل، قادرا على أن يخلق مرة أخرى وهو أهون عليه، ولن يؤمن بذلك مالم يحرك عينه وعقله،( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

هذا القادر والرب الحكيم هو الذي يحاسبنا ويعاقبنا، ومتى ما تكون الحكومة بيد قادر فلابد للإنسان أن يخاف ويحذر من العقاب الشديد والعذاب الأليم: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)، والمعنى الحقيقي لكلمة (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) إليه ترجعون، ولكن تقلبون لها ظلال أبعد من هذا المعنى وهو المنقلب إلى الله وكأنه يفتر، وكأن الحياة دورات، دورة الخروج من صلب الأب ومن رحم الأم إلى أن يكبر، والدورة الثانية تكون في رحم القبر ثم الخروج  من هذا الرحم إلى رحم القيامة، وهذا الذي ننقلب إليه.