
المرجع المدرسي: ليس كل الناس مؤهلون لاستماع الحق كما هو قبل مرحلة من التمهيدات
05 Jun 2023أكد سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) أن “النفاق ازدواجية بين ظاهر الانسان وباطنه، فيما أوضح أن “التقاة تعني استبطان الايمان والصلاح مع عدم اظهاره للناس.”
جاء ذلك في الدرس التاسع عشر من سلسلة دروس التدبر في سورة فصلت المباركة التي يلقيها طيلة ليالي شهر رمضان المبارك.
وقال سماحته، إن “مسألة التقاة ليست مسألة مقتصرة على اخفاء الحق على الاعداء الذين يقتلون الانسان اذا عرفوا عقيدته.” مؤكداً أنها، ” بل يشمل حتى الاقربين من الناس.”
ورأى سماحته، أن “ليس كل الناس مؤهلون لاستماع الحق بما هو، بل هم بحاجة الى تمهيدات”.
و في ما يلي النص الكامل للدرس التاسع عشر من سلسلة دروس التدبر في سورة فصلت المباركة:
بسم الله الرحمن الرحيم
[وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ (34) وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ (35) وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليمُ (36) ]
آمنا بالله ، صدق الله العلي العظيم
” تعد اللغة العربية ادق لغة بين لغات العالم ، ومن دقتها وجود بعض العبارات المتقاربة في حروفها وتركيبها والمختلفة في معانيها ، وقد تتناقض ، فكلمة ” المرحوم” تشابه كلمة ”المرحوم” في الحروف والتركيب ولكنها تناقضها في المعنى تماماً.
كما قد يرد لفظتان تدلان على معنىً واحد – في الظاهر- ولكنهما يتقابلان باختلاف اللحاظات ، ومثاله كلمتي ( النفاق و التقاة).
فالنفاق وجود ازدواجية بين ظاهر الانسان وباطنه، حيث يدل الظاهر على الايمان والصلاح ويكون الباطن بالعكس ، اي الكفر والجحود.
ولكن التقاة ، بالرغم من انها تدل على ازدواجية الظاهر والباطن ، الا انها تعني استبطان الايمان والصلاح مع عدم اظهاره للناس. ولكن ما هي اهمية التقاة؟
اهمية التقاة
يصل المؤمن الى قمة الاستقامة فيحمل بين جنبيه روحاً مخلصة لله ، ويقيناً بأمر الله ، وتنمراً في ذات الله سبحانه ، المستوى الذي لا يتحمله المجتمع بسبب جهلهم وضعفهم ، فاذا ما اراد اظهار نفسه على حقيقته للمجتمع لرفضوه وانكروا عليه.
وقد كانت الظروف – غالباً ما – تحتم على المؤمن ان يعيش بين الناس مع عدم اظهار نفسه على حقيقتها ، علّه ينفذ في المجتمع ويغيرهم نحو الصلاح.
ومن هنا نعرف ؛ ان مسألة التقاة ليست مسألة مقتصرة على اخفاء الحق على الاعداء الذين يقتلون الانسان اذا عرفوا عقيدته – كما كان في حادثة عمار بن ياسر رضوان الله عليهما – ، بل يشمل حتى الاقربين من الناس ، كما ذهب الى ذلك بعض علماء الشيعة ، وهذا الأمر صحيح لأنها سيرة انبياء الله واولياءه ، ففي الحديث عن أبي عبد الله ، عليه السلام ، قال : ” مَا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْعِبَادَ بِكُنْهِ عَقْلِهِ قَطُّ وَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ” .
وقال أمير المؤمنين ، عليه السلام ، لولده محمد بن الحنفية : ” يَا بُنَيَ لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ بَلْ لَا تَقُلْ كُلَ مَا تَعْلَم” >
اذ ليس كل الناس مؤهلون لاستماع الحق بما هو ، بل هم بحاجة الى تمهيدات.
قبل الدعوة
وعلى المؤمن الذي يبتغي رضوان الرب بدعوة الناس الى الحق ، أن يهتم بامرين قبل قيامه بالدعوة:
اولاً: ماذا يقول ؟ بمعنى الافكار والبصائر التي يريد بيانها .
ثانياً: كيف يقول؟ فطريقة عرض الأفكار واسلوب البيان أمر هام جداً ، يجب ان لا يغفل عنه الانسان في دعوته الى الله.
[وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ ]
المسافة بين الحسنة والسيئة هي نفسها المسافة بين الجنة والنار ، اي بين القمة وقعر الوادي ، ولا يمكن بحال ان يتصور الانسان وجود تقاربٍ بينهما ، حتى لو كانت المظاهر متقاربة ومتشابهة.
[ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ ]
وما دامت الحسنة لا تستوي مع السيئة ، فعلى المؤمن الذي بلغ مرحلة الاستقامة ان يدعوا الى الحسنة ، ولكن بأي اسلوب؟
بأحسن الاساليب ، بأن يتكلم مع الناس باحسن الوجوه ، فحتى لو كانت وجوه حسنة عدة ، عليه ان يختار اسناها واعلاها ، وذلك من خلال الالتفات – اولاً- الى الحاجات المادية والنفسية ، لمن يريد دعوته ، وكذا يتعرف على صفاته واخلاقياته ، وبعد ذلك يعتمد الاسلوب الانسب مع الاخلاق الفاضلة ، كل ذلك في سبيل الدعوة الى الله سبحانه وتعالى. ارأيت كيف يتلطف احدنا في حاجاته الشخصية ، ويضع الخطط للوصول الى مآربه ؟ كذلك يبنغي ان يكون الأمر في ما يرتبط بالدين والدعوة اليه.
التدرج في الدعوة
ومن الاساليب المهمة في تبليغ الدين ، التدرج في بيان الحقائق ، بدءاً بما يقرب من الانسان استيعابه ، لكي لا يكون وقع الحق على نفسه شديداً فيرفضه انتصاراً لذاته واهوائه ، وهذا من معاني ” الانظار” في قوله تعالى : [يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرينَ عَذابٌ أَليم] .
[فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ]
وبالدفع بالتي هي احسن ، يحوّل الانسان العدو الى صديقٍ مقرب ، ومن اساليب الدفع استعمال ” التقاة” ، فعن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- تعالى-: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ قال: الّتي هي أحسن، التّقيّة. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم .
وهكذا كان لزاماً على المؤمن ، ان ينمي الاخلاق الحسنة والصفات الطيبة في داخله ليجذب الناس الى الدين ، بافعاله قبل اقواله ، وبخصاله قبل دعوته ، فالمؤمن الحقيقي هو من لا يكون في بلدٍ الا وهو خيرهم واتقاهم واحسنهم خلقاً ، وكما في الحديث عن الأمام الصادق ، عليه السلام : ” لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ كَانَ فِي مِصْرٍ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَ كَانَ فِي الْمِصْرِ أَوْرَعُ مِنْه”
متأسياً في ذلك برسول الله ، صلى الله عليه واله ، الذي كان على خلقٍ عظيم ، واهل بيته، عليهم السلام ،الذين جسّدوا كل مفردات الخلق الفاضل في سيرتهم ومسيرتهم.
صفات الداعية الى الله
[وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا ]
ليست الدعوة الى الله بأحسن الاساليب قضية سهلة يقدر عليها كل من بلغ درجةً من الإيمان ، بل هي منزلة يوفق الله المؤمن في الوصول اليها ، شريطة توفر صفتان اساسيتان فيه :
اولا: الصبر ، حيث يصبر المرء على مرّ الحاضر ليصل الى الهدف ، ولكن ما هي حقيقة الصبر؟
حقيقة الصبر تكمن في اختراق الحاجز الزمني للأمور ، فيعيش الصابر المستقبل ببصيرته ويتجاوز بذلك الحاضر ، ارأيت كيف يتصور زارع فسيل النخلة اثمارها بعد سنين متطاولة ؟
هكذا هو المؤمن ، ينظر الى المستقبل في كل أعماله ، حتى لو تكن هناك نتائج آنية ، فترى مثلاً الامام الكاظم ، عليه السلام ، بأخلاقه العالية يربي فقهياً من فقهاء الشيعة وهو سبط الدّ اعداء الامام ، اي السندي بن شاهك ، حيث كان ينقل السندي مناقب الامام الى منزله ، ورغم عدم تأثره بها ، الا انها اثّرت في ابنته فصارت موالية وكان ابنها من الشيعة المقربين للائمة.
” وكما فعل ذلك امير المؤمنين عليه السلام في ليلة الهرير ، حيث لم يكن يقتل الامام اي رجلٍ في جبتهه نورٌ لمؤمن سيخرج من صلبه ( ولو بعد سبعة اجيال) ، ويقتل غيره”.
[وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ]
والصفة الثانية لمن يلقّى هذه الحالة المباركة ، هي الحظ العظيم ، فما هو؟
الحظ هو النصيب من الفضل والخير ، ويتصور البعض ان الحظ الحسن والحظ السيء امورٌ مقدّرة على الانسان ، ولا يستطيع تبديلها ، في حين ان هذا التصور خاطئ، فالحظ ناتج من اخلاق الانسان وسلوكه ، اذ ان الاخلاق الطيبة تجلب للانسان الحظ العظيم ، بعكس الاخلاق السيئة.
نزغُ ابليس
قد يبتلى المؤمن بحالة العجب لما يؤديه من عبادات وطاعات وتورع عن المعاصي ، ولكيلا يقع المؤمن في حبائل العجب التي تخرجه من الإيمان ، يبتليه الله سبحانه بارخاء حبل التقوى والورع ، فيبتلى المؤمن بترك واجبٍ او ارتكاب معصية صغيرة ( لمم) ، وبذلك يبدأ المؤمن يؤنب نفسه ويوبخها.
ويستفيد ابليس من هذه الحالة فيحاول دفع الانسان الى المزيد من الذنوب ، وابعاده عن الله سبحانه وتعالى ، ولكن الله يسدد المؤمن في مواجهته لابليس.
[وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ]
النزغ هو الطعن والفساد ، فالشيطان يسعى لافساد ايمان المؤمن بدفعه الى المعاصي اكثر واكثر ، وحينها لابد من الانتباه من مكائد ابليس وردها بالاستعاذة.
[ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليمُ]
بالاستعاذة بالله ، الذي يسمع دعاء الانسان ويعلم ما يدور في خلده من افكار ووساس لابليس ، يقي الله المؤمن من الانجرار وراء مكائد الشيطان.
صفوة القول
• التقاة ( التقية ) تعني استبطان الايمان واظهار ما يرضي الناس ، وهي ضرورة لحفظ النفس ونشر الحق.
• على المؤمن ان يهتم – في سبيل الدعوة الى الحق- بما يريد قوله ، وبطريقة قوله له.
• الصبر والحظ العظيم صفتان ، تؤهلان المؤمن ليلقّى حالة سعة الصدر والدفع بالتي هي أحسن.
• بالاستعاذة بالله يعود المؤمن الى حصن الايمان ، بعد خروجه بسبب مكائد ابليس.