
المرجع المدرسي: من جرائم الحقل الثقافي ابعاد المجتمعات عن القرآن
05 Jun 2023
اعتبر سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) الثقافات المظللة أشد فتكاً بالمجتمعات من غيرها، مؤكداً أنه، “يدخل الانسان بكلمة باطل ملايين البشر الى نار جهنم”.
وفي الدرس الخامس عشر من سلسلة دروس التدبر في سورة فصلت المباركة؛ قال سماحته، إن”لكلمة الظلالة دورها في غواية الملايين من البشر كما هو دور ابليس في غواية الخلق وصدهم عن سواء السبيل”.
واستشهد سماحة المرجع المدرسي حول ذلك بـ ” مواجهة الكفار للقرآن الكريم” موضحاً ذلك بقوله، “من الجرائم في الحقل الثقافي مواجهة الكفار للقرآن الكريم ، حيث اوصى بعضهم بعضاً بالقول : لا تسمعوا للقرآن وامنعوا الاخرين من الاستماع اليه ايضاً”.
بسم الله الرحمن الرحيم
[فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبينَ (24) وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرينَ (25) وَ قالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذيقَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا عَذاباً شَديداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ (27)]
صدق الله العلي العظيم
لا يدرى بالدقة ، من أي شيء تكون حرارة نار جهنم ، لكن تدل الدراسات الحديثة اليوم ان حرارة النار ناتجة من الطاقة الذرية الفعالة فيها ، ولولا ذلك لخبا نورها وبرد حرارتها ، والظاهر ان حرارة الشمس هو من جنس حرارة نار جهنم، حيث تلتحق الشمس بها يوم القيامة.
ومهما كان ، فإن مثوى اعداء الله في نار جهنم عسير ، فلا يملكون فرصة الخلاص مما هم فيه.
[فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ]
لا ينتفع الكافرون بصبرهم في النار ، لأنهم ضيّعوا فرصة الصبر في دار الدنيا حيث كان ينفعهم ، حين لم يصبروا على الطاعة والمعصية ولم يصبروا كذلك على البلاء.
ويصبر الانسان على بلاء الدنيا لإنه زائلٌ ولو بعد حين ، ولكن ما نفع الصبر اذا كانت النار هي محل اقامتهم دائماً؟
[وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبينَ]
( یستعتبوا ) اي يستقيلوا ربهم تعالى ، وذلك يعني الاستغفار والتوبة.
ولا ينفعهم في نار جهنم ندمٌ واستغفار ، حين فوّتوا فرص الإنابة والاستقالة حيث كانت سانحة لهم في دار الدنيا.
[وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرينَ]
ومزيداً من الاضلال يقيض الله لهم قرناء سوء ، يزينون لهم سوء فعالهم. وقد تحدثنا عن هذه الاية في الليلة الماضية.
الجريمة الثقافية اشد !
ما نستفيده من الروايات المباركة ، ان لجهنم دركاتٌ سبع ، في الدرك السابع وبئر تنبعث حرارة جهنم من تابوت فيها ، وتكتسب كل دركة حرارتها من التي قبلها ، وفي التابوت اثني عشر رجلاً من الاشقياء اولهم قابيل الذي جنى اول جناية في التاريخ البشر بقتل أخيه ، والثاني عاقر ناقة صالح اشقى الأولين ، والثالث ابن ملجم اشقى الاخرين والرابع هو من يجني على الإمام الحجة عجل الله فرجه بعد ظهوره ، ماذا عن الثمانية الآخرين؟
جناية اولئك لا تشابه الأربعة الاخرين ، فليست جنايتهم من جنس ما جنوه اولئك بجريمة القتل والعقر ، وانما تتعلق بتحريفهم للاديان واغوائهم للناس. فحوافز الانسان متعددة ، ومنها الحافز الديني ، فاذا تم تحريف هذا الدافع في الانسان فسوف يدمّر حياته وآخرته بإسم الدين ، الا ترى كيف يقوم اليوم بعض المغرر بهم بقتل الناس بإسم الدين ؟ اليس هذا ما كان يفعله جيوش الظلام في مقابل اهل البيت عليهم السلام ؟ ففي كربلاء قاتلوا سبط رسول الله ، صلى الله عليه واله ، سيد شباب اهل الجنة ، عليه السلام ، بإسم الدين وباسم الله ، وكما قال زين العابدين ، عليه السلام : ” وَ لَا يَوْمَ كَيَوْمِ الْحُسَيْنِ علیه السلام، ازْدَلَفَ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلٌ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ بِدَمِهِ وَ هُوَ بِاللَّهِ يُذَكِّرُهُمْ فَلَا يَتَّعِظُونَ حَتَّى قَتَلُوهُ بَغْياً وَ ظُلْماً وَ عُدْوَانا”[1].
ومن هنا ، فلیست مسألة الثقافة مسألة بسيطة ، اذ قد يدخل الانسان بكلمة باطل ، ملايين البشر الى نار جهنم ، بلى؛ هم المسؤولون عن انفسهم ، ولكنّ لكلمة الظلالة دورها في غوايتهم ، كما هو دور ابليس في غواية البشر وصدهم عن سواء السبيل.
[وَ قالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ]
ومن الجرائم في الحقل الثقافي ، مواجهة الكفار للقرآن الكريم ، حيث اوصى بعضهم بعضاً بالقول : لا تسمعوا للقرآن وامنعوا الاخرين من الاستماع اليه ايضاً.
القرآن الذي فيه رسالة الحياة ، وهو روح أمر الله جلّ جلاله ، امتنعوا عن مجرد الانصات الى آياته ، وهل اكتفوا بعدم الاستماع ؟
[وَ الْغَوْا فيهِ ]
ترجموا القول الى فعل ، حيث الالغاء في القرآن ، في سبيل منع الناس من تلقي نور الوحي ، فكان النبي الاكرم ، صلى الله عليه واله ، يجلس عند البيت تالياً كتاب ربه ، وهم يقومون بالقاء الشعر هنا وسرد القصص الخرافية هناك ، وبالمكاء والتصدية و.. كل ذلك تنفيذاً لخطة الالغاء في كتاب الله ، ولكن ما هو اللغو؟
اللغو هو الكلام العاري من المعنى والفاقد للهدف ، وهذا ما كانوا يقوم الكافرون فعلاً.
[لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]
كل ذلك ، علّهم يستطيعون الانتصار على القرآن الكريم والغلبة عليه..
وبالفعل وصلوا الى ما راموا اليه بصورة كبيرة ، حيث اغووا الكثير من الناس وابعدوهم عن هدى القرآن الكريم ، حتى وصلت حالة ( اللغو ) في القرآن الى المسلمين انفسهم الذين يعتقدون بكتاب الله ، فضيعوا معانيه رغم حفظهم لحروفه، ترى ؛ مئات الملايين يقرأون اليوم القرآن الكريم ؛ ولكن هل ينتفع منه الا الأقلون عددا؟
جزاء الغاوين
[فَلَنُذيقَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا عَذاباً شَديداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ]
عذاب الله الشديد بانتظارهم ، ولا يخطأهم ابداً.
وقد فسّر البعض ان العذاب الشديد ، هو العذاب الدنيوي الذي يناله كل من يغوي الناس عن الحق ويظلهم عن سواء السبيل ، وذلك عبر الوان العذاب الالهي.
واجلى مصداق لمن يسعى لغواية الناس باسم الدين ، هم علماء السوء ووعاظ السلاطين ، الذين يحرفون الدين ، متى ما شاء السلطان ، ويبررون له ظلمه وخروجه عن حدود الله سبحانه ، متلقيّاً في المقابل بعض الدراهم العفنة ، التي تليها – كما هي العادة – قتلة سوء بيد السلطان ذاته.
هذا عن عذابهم الدنيوي ، اما عذابهم في الآخرة فيتمثل بجزاء حقٍ بما عملوا ، ولكنهم حينذاك يؤاخذون باسوء اعمالهم ، المتمثل في عدم الانصات الى الهدى ومحاولة صد الآخرين منه.
بصائر في الحقل الثقافي
البصيرة الاولى: ابتلي المسلمون في مجتمعاتهم بهجمة ثقافية شرسة ، من اجل ابعادهم عن دينهم الحق وكتابهم المجيد ، وقيمهم السامية ، وقد وجّه العدو جميع وسائله الثقافية والاعلامية في هذا الاتجاه ، صارفاً مليارات الدولارات في هذا المجال.
البصيرة الثانية: الهدف الاساس الذي يبتغيه الاعداء من هجماتهم تلك ، هي التلسط على المسلمين ، ولا يتحقق ذلك الهدف الا بمنع المسلمين من الاستفادة من المعين الصافي للثقافة الحقة ، وهو القرآن الكريم ، مستخدمين في سبيل ذلك اسلوب الكفار ( الغوا فيه) ، لماذا؟
منبعي الثقافة
السبب في ذلك ، ان للثقافة منهجان ، لا ثالث لهما ، اما الحق المتمثل في الوحي ( القرآن واحاديث النبي واهل بيته ) والعقل المدرك للوحي والمستنير بنوره ، والواقع ( التطبيق العملي للثقافة ، اليوم ).
اما المنهج الثاني فهو الباطل ، وهو كل ما سمى الحق ، مثل الشهوات والعصبيات والحميات ووساوس ابليس و ..
وكل الثقافات الباطلة تهدف ابعاد الامة الاسلامية عن الثقافة الحقة لتسود ثقافتها على الناس.
واجب المواجهة
البصيرة الثالثة : واجب المسلمين يتلخص في جعل الوحي ( القرآن الكريم واحاديث العترة الطاهرة) محوراً لحياتهم في مختلف جوانبها الثقافية والسياسية والاجتماعية و.. والّا يفعلوا ذلك يبقى حالهم كما هو عليه ، من ضعف وتقهقر وذل امام الاعداء ، لأن ما حصل هو بسبب ابتعادهم عن هذه المنابع الصافية.
والعودة الى المعين الصافي يتمثل بجعله محوراً للمناهج في الحوزات العلمية والجامعات الاكاديمية ، في قبال الحركات التي تحاول احياء الفكر الجاهلي لمواجهة القرآن الكريم تحت مسمى ( احياء التراث العربي القديم) ، والجهات التي أسست الجامعات على اسس علمانية لا تؤمن بالله ولا بأديانه.
صفوة القول
- الصبر والاستغفار لا ينفعان الكافر في نار جهنم ، بعد ان فوّتها في الدنيا.
- دوافع الانسان متعددة ، واشدها اثراً على سلوكه هو دافع التدين ، واذا ما تم تحريف هذا الدافع فإنه يؤدي الى تدميره من كل ناحية.
- من الجرائم الكبرى في الحقل الثقافي ، مواجهة الكفار للقرآن ، حيث اوصى بعضهم بعضاً بالقول : لا تسمعوا للقرآن ودعوا الى اللغو فيه.
- عذاب الله لمن يحرّف دينه ويلغى فيه ، شديد في الدنيا والآخرة.
- يواجه المسلمون بهجمة ثقافية شرسة بهدف ابعادهم عن القرآن الكريم بغية الغلبة والهيمنة عليهم.
- على المسلمين ان يواجهوا الهجمات الثقافية بالعودة الى الوحي المتثمل في القرآن وكلمات النبي واهل بيته ، وجعله منهجاً لمختلف جوانب حياتهم.
[1] الآمالي ( للصدوق) : 462