
المرجع المُدرّسي في الدرس الثالث في التدبر : الإيمان بالآخرة الميزان الفكري للإنسان
05 Jun 2023
ألقى سماحة المرجع المُدرّسي دام ظله ليلة الثلاثاء الموافق 27 ذو القعدة 1435 هجرية الدرس الثالث من دروس التدبر في القرآن الكريم في سورة العنكبوت الآيات (5-7) وفيما يلي نص الدرس :
بسم الله الرحمن الرحيم
(مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
من سنن الله في خلقه أن كل مخلوق يعتمد على قوة داخلية تحافظ على توازنه، بحيث أن هذه القوة لو اخترقت أو انثلمت فإن هذا المخلوق ينهار، واذا كان بعضكم تابع برنامج الافتراس فسيعرف كيف أن الحيوان المفترس يمسك فريسته من حلقومها، ومن ثم يؤدي إلى أن يستسلم هذا الحيوان وينتهي، وكذلك الذين يفجّرون البنايات من أجل إعادة بنائها، فإنهم يضعون المتفجرات في مواقع معينة فإذا تفجرت فسينهار البناء بأكمله.
كذلك في عالم الفكر هنالك محور رئيسي لدى الإنسان لو تضرر جزئياً أو كلياً فإن التوازن الفكري لدى الإنسان سوف يختل؛ فهناك ميزان لدى الإنسان إذا اختل فالمخ كله يختل وترى هذا الإنسان في الظاهر يخطط ويفكر؛ ولكن المشكلة عند هذا الإنسان أنه أخطأ الطريق الرئيسي وبتعبير القرآن الكريم هو في ضلال مبين، وقد تكون هنالك سيارة جميلة وسريعة ولكنها لن تصل لهدفها لأنها على الطريق الخطأ.
فما هو ميزان الإنسان؟
يبدو لي من خلال التدبر في آيات شتى وبعض الروايات المحكمات أن الميزان الفكري للإنسان هو الإيمان بالآخرة، بحيث أن هذا الإيمان لو اختل فكل المنظومة الفكرية تختل ولا يكاد الإنسان يفهم شيئاً ولو استطاع أن يخرج الشعرة من اللبن .
لماذا؟
لأن الدنيا والآخرة وجهان لحقيقة واحدة، فقد تكون الدنيا بداية والآخرة نهاية، وقد تكون الدنيا ظاهر والآخرة غيب، وقد تكون الدنيا مزرعة والآخرة حصاد.
وفي النهاية فإن الدنيا والآخرة حقيقة واحدة؛ ولكن هذه الحقيقة الواحدة لها أكثر من وجه، فمن لم يعرف جانباً من هذه الحقيقة؛ أي الآخرة فهو أجهل بالجانب الآخر أي الدنيا، وبالتالي فالمنظومة الفكرية قد انتهت عنده.
وهناك كلمة للإمام علي عليه السلام يصف فيها الإيمان، بالإيمان بالآخرة باعتبار الإيمان أعتمد على أربع دعائم وكل دعامة لها شُعَب، والشُعَب كلها ناظرة للآخرة مثال ذلك الصبر حيث يعتمد الصبر على التوجه للآخرة فمن يعرف نعيم الآخرة يسلو عن الشهوات.
وهنا أيضاً في سورة العنكبوت يحدثنا ربنا عن هذا الجانب بشكل واضح فيقول:
(مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
هنا أكثر من تساؤل: ولماذا لم يأت ربنا سبحانه بالتعبير التالي: “من كان يؤمن بالله” بدل “يرجوا لقاء الله”، هناك أكثر من معنى وراء ذلك :
أحدها أن الإنسان إذا نظر نظرة عابرة وحتى من دون تعمق وتأمل من حوله يرى الآخرة ماثلة أمامه، فيرى نعيم الجنة ويرى عذاب الآخرة؛ لأن الدنيا كلها صور مصغرة من الآخرة لكن مشكلة الإنسان أنه لا يؤمن بالآخرة، ويكفر بالآخرة انطلاقاً من أنه لا يصدق أن الله قادر على أن يعيد الموتى ويعيد الحياة من جديد، فجَحْده للآخرة هو الذي يسبب عدم إيمانه.
أما إذا بدأ الإنسان في أن يتعامل مع حقيقة الآخرة بطريقة إيجابية فأخذ يرجو لقاء الله فمجرد هذا الرجاء، فإن ذلك يفتح له آفاق الآخرة بسبب تراكم الأدلة له من بعد الرجاء.
وهناك معنى آخر وهو “من كان يرجو لقاء الله”.. بمعنى أن الإنسان في الخوف والرجاء إذا كان الموضوع عظيم فقد يتحرك بمجرد الخوف ومجرد الرجاء.
فالذي يخاف أن تكون أمامه حفرة عميقة تنهي حياته، أو حقل ألغام قد ينهي وجوده؛ فمجرد الخوف يكفي هذا الإنسان ليرتدع.
والرجاء كذلك ومثله إذا رجى أحدهم أن يحصل على مليون دولار مقابل أن يدفع دولار واحد ، كما ترون الذين يشترون أوراق اليانصيب؟ لأن هنالك رجاء في الطرف الآخر.
فإذا كان الموضوع لقاء الله، خالق السموات والأرض رب العالمين خالقنا هو من نتوجه إليه، فإن مجرد الرجاء للقاء الله يكفي رادعاً للإنسان عن الجريمة ويضع الآخرة في حساباته.
قصة معروفة أن زليخا لما طلبت من يوسف ما طلبت غطت رأس الصنم بستار فقال لها نبي الله يوسف لِمَ صنعت ذلك، فقالت: أخاف أن يراني على ما أنا عليه، فقال لها: ويلك ألم تفكري في رب العزة وهو يرانا.
فالإنسان إذا خاف –مثلاً- من كاميرا خفيه فإنه يحاذر على سلوكه وإذا قيل له بأن هاتفك مراقب وهناك من يسترق السمع، فإنه يتحدث رأسًا بشكل دقيق وحذر.
وهذا الاحتمال الثاني يدل عليه ختام الآية و(هو السميع) أي علمه حاضر وأيضاً هو (العليم)؛ أي علمه غابر.
ولكن، هناك نقطة سلبية عند الإنسان – بعض الأحيان – تتمثل في أنه قد يرجو شيئاً ولكن هذا الشيء بعيد من الناحية الزمنية فلا يجعله ذلك يتحرك، فالإنسان هو ذلك القائل عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة، وذلك الأحمق الذي قال “وما عاقل باع الوجود بدينِ” وهو عمر بن سعد لعنه الله.
ولكن الله سبحانه يقول انتبهوا إلى أن الزمن لا يغير الواقع وهذا المطلب عظيم يحتاج إلى دروس مطولة لنتحدث فيه حول كيفية “تجاوز حاجز الزمن”، إن هذا الأمر أهلك القرون من قبلنا، وأهلك الكثير من الناس أنهم لا يستحضرون المستقبل، فالإنسان العاقل يستحضر الماضي فيعتبر ويستحضر المستقبل فينطلق.
وكلما كان وعي الإنسان قاصراً كلما كان كقاصر النظر الذي لا يرى أبعد من مترين، أما الإنسان الذي يستحضر المستقبل في أي جانب كان، فإنه يستولي على الزمان؛ لأن الزمن السابق والحاضر واللاحق هو شيء واحد؛ ولذلك يحدثنا ربنا هنا بأن الآخرة ولقاء الله آتٍ وكل آتٍ قريب، صحيح أنه بعيد ولكن ما الفرق بين البعيد والقريب؟ الفرق هو في وعينا نحن.
كل هذه البصائر نستوحيها من قوله تعالى (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ ..)
طبعاً، أهل العرفان هنا لديهم كلمات كثيرة؛ لأن المؤمن هنا كلما ازداد إيماناً ازداد حباً في الله وفي لقائه، حيث عرف أن في لقائه الروح والريحان والحب والحبور والسرور والنور.
(فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) يعني ما قرره الرب وأجله حتى لو كان متأخراً فإنه يأتي وما دام يأتي فلابد أن نحسب حسابنا له..
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) عِلمُ الله حاضر ومحيط بمعنى أن علمه الآن بهذا الشيء وبما قبله وبما بعده، ولعل كلمة (السميع) تدل على العلم الحاضر ككلمة (البصير)، بينما كلمة الخبير أو العليم وما أشبه تدل على العلم المحيط من قبل ومن بعد.
وتبقى هنالك مشكلة في طريق الإنسان وهي أن الإنسان أمام الحقائق عنده أكثر من موقف، فبعض الناس يريد أن يكيّف الحقائق حسب واقعه، وهناك من يريد أن يكيف نفسه وفق الحقائق.
الذي يريد أن يكيف الحقائق وفق نفسه يخطأ؛ لأن الحقائق لا تتكيف، أرأيتم ذلك الذي يفسر القرآن برأيه؟ هو يفعل ذلك كي لا يطبق القرآن فهذا الإنسان نهايته النار، أما الذي يريد أن يستطيل ويكبر ليفهم القرآن فهو لا يسمح لنفسه أن يبقى ضعيفاً محدوداً تجاه الحقائق وإنما يحاول أن يرتفع لمستوى الحقائق. هذا الإنسان دائماً في تصاعد وفي تكامل.
أرأيت لو أعطيت أنساناً نصاً شعرياً وهو لا يعرفه ففسره بطريقته الخاصة، فهذا الشخص لا يمكنه أن يصبح عالماً به، أما من أراد أن يعرف حقيقة هذا الشعر فإنه يصبح عالماً بهذا النص الشعري.
والمشكلة الكبيرة التي تقف حاجزاً دون استطالة الإنسان وتكامله هي حب الذات ..
هل رأيت ذلك الإنسان الذي يراعي مزاجه ورغبته في الراحة على حساب العمل ، وقد حكى لي شخص أنه يعمل كل الموبقات وبين موبقة وأخرى يقول بأن قلبي نظيف! فكيف يكون ذلك القلب نظيفاً مع كل تلك الذنوب؟!
من يقول (ليس لي خلق) أو مزاج فهذا يعبر عن شهوة الراحة وشهوة الاسترخاء ولعله من أعظم عوامل الذنوب حب الذات وهوى النفس. وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة : (إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: إتباع الهوى وطول الأمل).
وفي حديثٍ أن أول ما عُصي به الله النوم، يتكاسل ويخلد للوسادة فلا يؤدي واجباته الشرعية والاجتماعية، وما أنقض النوم لعزائم اليوم.
فكيف نعالج حب الذات وحب الراحة ونواجهه ببصيرة إيمانية؟
لأن الإنسان يحب نفسه، فلنأتيه من نفس الزاوية فنقول له إذا عملت فإنما تعمل لنفسك وهذه بصيرة تربوية مهمة جدًا من الممكن أن تصاغ بعدة تعابير مختلفة، والخلاصة هي أن يستحضر عند الطرف الآخر أو حتى عند نفسه الإيجابيات التي يحصل عليها عند إتيانه بالعمل الصالح.
فيستحضر هذه الإيجابيات ليقاوم حب الذات ويقاوم حب النوم ويقاوم حب الراحة وإلخ.
وهناك بصيرة أخرى في نفس الآية أود أن أشير إليها وهي كلمة الجهاد (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)
فلماذا استخدمت كلمة جهاد في هذه الآية؟ ومع من؟
الحديث أن السؤال (جهاد مع من وماذا ليس مطروحاً)، فمن الناحية اللغوية هناك قاعدة في اللغة العربية مهمة جدًا، تقول بأن حذف المتعلق يفيد العموم، فالقرآن لم يحدد نوع الجهاد هنا؛ بل جعله عاماً فالقرآن لا يحدثنا عن القرآن كواقع موضوعي بل كواقع قيمي أي بعيداً عن تجلياته وعن تحققاته.
(وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ) من الطبيعي أن يكون الجهاد الأول هو مع النفس، وكذلك الجهاد الأخير مع النفسن فمن دون الجهاد الأول مع النفس لن يذهب للجهاد مع العدو، وإذا ذهب للجهاد وعاد فلابد أيضاً أن يجاهد نفسه، فصحيح أن جهاد العدو وضع في ميزان أعماله ولكنه قد يفسده بالعجب، بالغرور، بالاستكبار بالتطاول على الآخرين بطلب بعض المصالح المادية الرخيصة.
فالجهاد محيط بالإنسان المؤمن بدءًا حتى ينطلق وعودًا حتى يحافظ على ما قام به من الأعمال الصالحة.
(وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ) هذا تأكيد بأن لا يتصور الإنسان بأن جهاده يصب في خانة غيره حتى ولو كان في الظاهر كذلك.
والمثل مشهور (اعمل المعروف وارمه في البحر) فالإنسان حين يعمل الخير ويرميه في البحر، فإنه يرجع إليه اما كيف يرجع إليه فذلك بحث آخر وهو تقدير الرب سبحانه وتعالى.
(وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ) هذا تأكيد وهناك تأكيد آخر في نفس الآية حينما يقول سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فهذان تأكيدان على نفس البصيرة عن أن جهادك هو لنفسك وأن الله غني عنك وعن نظرائك لأن الله هو الذي رزق وهو الذي ألهم .
هذه لفتة قرآنية في أكثر من آية وأكثر من مناسبة في إصلاح النفس وهي أن الله غني لا يريد من عبادتك شيئاً لأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
إذاً هنالك عدة حافزان في هاتين الآيتين:
الحافز الأول في الآية الأولى : ربنا يبين بأن (أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ).
الحافز الثاني في الآية الثانية: بأنك حين تجاهد فإنك تجاهد لنفسك (فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ).
الحافز الثالث في الآية الثالثة: يبينه ربنا في الآية التالية:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)
هذه قضية مهمة جداً في شأن الإنسان حين يطرق مع نفسه ويحس بالخطأ ، فإحساس الإنسان بالخطأ والذنب قد يدفعه للخلف كما فعل حميد بن قحطبة واكله في أيام شهر رمضان من دون علة أو سفر وتعليله أنه قتل أبناء رسول الله فكيف ينفعه ذلك الصيام.
وقد يدفعه للأمام فيقول: ما دمت أخطأت فلأحاول أن أصحح وأتخلص من تبعة الخطأ فكيف أتخلص؟ بالجهاد وبالعمل الصالح فالعمل الصالح يجبر نقص الإنسان وهذا من نعم الله على البشر.
ربنا يقول: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (.
وهنا لفتة أخيرة، القرآن حفزنا بثلاث حوافز وكل حافز يكفي وحده ولكن بدأ هذه الحوافز بحافز لقاء الله، لأن النفوس العرفانية والنفوس الصالحة .. النفوس المؤمنة هؤلاء لا تهتم بالأكل ولا بالمشاكل، ما دام أنه إنسان كريم نفس عنده عزة وكرامة وعنده إحساس بشخصيته، فما يؤلمه ويرجوه بلقاء الله أكثر مما يرجوه ويؤلمه من الجنة والنار.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.