Search Website

المرجع المُدرّسي في درس التدبر الخامس: الصحوات الذاتية عند الإنسان قد تحدث له في الحج

المرجع المُدرّسي في درس التدبر الخامس: الصحوات الذاتية عند الإنسان قد تحدث له في الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(13).

يبدو أن السور القرآنية مختلفة في سياقاتها، وبعض السور كل آية فيها تعتبر وحدة موضوعية واحدة، ويأتي بعضها ثلاث آيات، وبعضها خمس آيات. ولكن كما يبدو لي أن سورة العنكبوت كل آيتين تتضمن وحدة موضوعية واحدة، وهاتان الآيتان تعالج قضية حادة وأساسية، هذه القضية تتصل بأسباب الضلالة عند الإنسان، فالقرآن يعالج عوامل الضلالة وأسباب الانحراف معالجة جذرية ولو أننا تنبهنا للمفاهيم القرآنية في معالجة أسباب الضلالة لاتخذنا موقفا سليما في الحياة، واستطعنا أن نواجه هذه العوامل بصورة جدية، وخاصة أن كل إنسان تمر في حياته فرصة للصحوة، صحوة تشرح صدره بالإيمان فيتجلى قلبه إلى الله.

هذه الصحوات الذاتية عند الإنسان قد تحدث له في الحج، أو في ليلة النصف من شعبان، أو ليلة القدر، أو عند زيارة لأحد مراقد الأئمة عليهم السلام، أو اصطدامه بالمشاكل الحادة، ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الصحوة وتتبدل، لماذا؟؛ لأن الكثير من الناس لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذه الصحوات، وهذا الكلام ينطبق هنا في الحج، فتجد ذلك الحاج يقف في عرفات فيتجلى قلبه ويعرج إلى الله من خلال صحوة حدثت له، ولكن سرعان ما يرجع كما كان عليه؛ والسبب كما ذكرنا سابقا أنه لا يعرف كيف يتعامل معها، ولكن إذا ما قرأنا القرآن بجدية، نعرف مداخل الشر ومخارجه فنتجنبها.
ومن هذا القضايا السلبية هذه القضية التي تعالجها هاتان الآيتان الكريمتان من سورة العنكبوت، وهي سياسة الحشد الجماهيري، وهو مصطلح علمي اكتشف بعيد الحرب العالمية الثانية عام 1945م من القرن الماضي، حيث اكتشف العلماء شيئا سمي فيما بعد بغسل الدماغ، عندما كان هناك بعض الأسرى في الحرب الكورية التي خاضها الأمريكيون ضد كوريا الشمالية ليقتطعوا كوريا الجنوبية من كوريا الشمالية التي سيطر عليها اليساريون – كي ملسون وجماعته-، فهؤلاء الأسرى الذين سيطروا عليهم اليساريون وادخلوهم السجن، فيما بعد حدثت عملية تبادل الأسرى بين الطرفين، فخرج بعض هؤلاء الأسرى شيوعيين من الدرجة الأولى واصبحوا جواسيس للاتحاد السوفيتي.

ولذا فإن علماء النفس وعلماء التربية وعلماء الاجتماع اجتمعوا فاكتشفوا ما يسمى بغسل الدماغ، ومن ضمن غسل الدماغ سياسات الحشد الجماهيري، فإذا دخل شخص لوحده مكان فإنه يمثل فردا واحدا، ولكن إذا دخل شخصان في مكان معين فإن الحالة الطبيعية أنه يمثل نفسه 90 % و10% لغيره، وإذا اصبحوا مليون -مثلا- فإنه يفقد من ذاتيته الكثير فيصبح جزءًا من المجموعة.

نعم الجهات الإيمانية تستفيد من هذا الحشد كما في الحج، فإذا ما ذهبت إلى مكة أو عرفات لوحدك فلن تحس بروحية وبعظمة هذا المكان وأثره عليك كما لو ذهبت مع جماعة، أو عندما تذهب لزيارة الإمام الحسين عليه السلام في أيام عادية فلن تحس بلذتها وروحانيتها كمثل زيارته في عرفة أو عاشوراء أو الأربعين.
نعم هذه السياسة؛ أي سياسة الحشد قد استفاد منها المؤمنون؛ لكن بالمقابل نجد الآخرين أيضا استفادوا منها، فنجد الشعارات ترفع فيتأثر بها الناس من كل جهة، وهو مدخل من مداخل الشيطان على قلب الإنسان فيفقد ذاتيته وإيمانه وعقله لمصلحة الجمهور فيفقد إنسانيته تماما.
فإذا أصبح الإنسان يساق كالأغنام فما هي قيمته، حيث يسلك طريقا لا يعرف إلى أين يسير فيه، بحيث أنك تجد جموعا تقاد من شخص واحد.

إن من طرق اثبات الهلال عند المسلمين هي مسالة الشياع، ولكن ليس شياعا من هذا النوع؛ بل هو شياع المؤمنين وشياع الصالحين، فليس كل من تحدث وقال، ليقول الآخرون كما قال من دون تروي وتحقق، فلا يعتمد على شياع كمثل هذا الشياع، اذًا لابد لكل شخص أن يعمل عقله وفكره باستقلال.
هؤلاء من الناس يسمون في اللغة العربية بالغوغائيين؛ وهم مجموعة من العناصر البشرية فقدت قدرتها الذاتية في التفكير فاتبعت ناعقًا، وقد وصفهم الإمام علي عليه السلام بالهمج الرعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، فالذين هجموا على دار فاطمة سلام الله عليها-كما ينقل- أنهم سفلة الأعراب، فقد كانوا في أطراف المدينة المدينة، وهم بدو يعيشون في الصحراء، وقد حدث أن سنة من السنين أجدبت الأرض، فزال الخضار والعشب، فجاؤوا إلى المدينة المنورة يصيحون أسلمنا أسلمنا، إن هؤلاء هم بنو سليم التي نزلت فيهم الآية الكريمة (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، فقد كانوا يمنّون على الله اسلامهم، فيرد الله عز وجل عليهم بقوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فقد كانوا لاجئين فيتفاخرون بإسلامهم من أجل أن يحصلوا على امتيازات.
إن هؤلاء الذين اجتمعوا على دار فاطمة الزهراء عليه السلام هم من صنف الغوغائيين، ولذلك ورد في الحديث (احذروا الغوغاء فإنهم قتلة الأنبياء)، كذلك الذين جاؤوا إلى كربلاء هم من الغوغائيين، فهم نفسهم من اصطفوا مع المختار، ويوما كانوا من أنصار مصعب بن الزبير، فيتنقلون من قائد إلى أخر ليقتلوا القادة السابقين.
ولذا لابد أن تعالج هذه الحالة في الإنسان، والقرآن الكريم يعالجها من خلال هاتين الآيتين، بأن يكون هو مسؤول بعيدا عن الاخرين أيا كانوا، فكل إنسان يحاسب يوم القيامة لوحدة، فلا دخل للجماعة أو الحزب أو التوجه أو القائد، بل ما قرره كل شخص عما صدر منه، فلا نجد ظلما عند الله، ولا نجد كتابا قد اختلط بكتاب آخر، (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).

فروح المسؤولية تنفع الإنسان، بحيث يحرك عقله وفكره؛ ليحدد ما الذي يفعله بإرادته، فلا يدخل ضمن الحشد الجمعي الجماهيري الذي يسيطر عليه ويفقده عقله؛ ليتحمل تلك المسؤولية الملاقاة على عاتقه.

وهنا، نذكر أيضا من ضمن المشاكل في سياسة الحشد الجماهيري، مشكلة الديمقراطيات في العالم، فنجد بعض الناس الأذكياء والذين لهم آراء معينة، هؤلاء يستفيدون من الضعف الحاصل عند الناس، فيشيعون بينهم بأنهم الأغلبية الساحقة لفلان من الناس؛ لكن كيف أصبحت أغلبية ساحقة؟! أصبحت أغلبية باعتبار أن الناس فقدوا عقولهم من خلال غسل الدماغ التي يعتمد عليها سياسة الحشد الجماهيري.
وكذلك ما فعله فرعون لسحرته وجماعته، أو مافعلته السياسة الإرهابية لداعش؛ التي تعمل على دس الأفكار الشيطانية؛ لتصل بالفرد إلى أن يقتل نفسه، لا يخرج عن فكرة سياسة الحشد الجماهيري.
يقول الله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا)، فالكافرون هو الأكثرية والمؤمنون هم الأقلية، ولذا فهم يدعون المؤمنين للدخول في سبيلهم والخط الذي ينتهجونه، (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، ولكن الله له ميزان معين، حيث حدد لكل إنسان كتابا يحاسب به، (وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ)؛ لأن كل إنسان مسؤول أمام الله عن نفسه، فالذي قتل الإمام الحسين عليه السلام لا يمكن أن يبرر جريمته عندما يحاسبه الله يوم القيامة بأن عمر بن سعد هو من أمره وقاده لذلك.
ثم يقول الله (إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وهذه نقطة مهمة، فالقرآن الكريم يصفهم بالكاذبين. ماهي علامات كذبهم هنا؟

إن أول كذبهم هو أنهم غير مستعدين لحمل خطايا بعضهم البعض، فتجدهم يوم القيامة يتبرأون من بعضهم البعض (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ* وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار)، وحتى الشيطان يوم القيامة أيضا يتبرأ من البشرية الذين أغواهم في القيامة(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وأما العلامة الثانية من علامات كذبهم أنهم لا يتحملون مسؤوليات بعضهم البعض، فلا نجد أحدا ينام في قبر الآخر، ولا أن يحاسب حساب الآخر بدلا عنه، فهم مفترون؛ والافتراء هو الكذب المحبوك حبكا قويا وهو أعظم من الكذب، (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ)؛ أي أنهم يتحلون خطيئة وأوزار وذنوب مضاعفة، فالذي يقود سفلة الأعراب يتحملون مسؤولية عملهم ومسؤولية عمل غيره؛ لأنه أبعدهم عن الحق والحقيقة، ولكن من دون أن تطرح مسؤولية الآخرين عنهم.
(وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وهذه الآية تعطينا بصيرة أن هؤلاء الذين يقودون الحشد الجماهيري ويعبئونهم باتجاهات خاطئة، وعادة هؤلاء لهم شخصية وسمعة وإعلام في المجتمع، لكن الإسلام يأتي فيكسر هذه الأصنام المغروسة في المجتمعات الإسلامية، يأتي له يوما فيكون متهما ويحاسب كما قد حوسب الطاغية صدام، فالله قد يمهلهم لكن أخذه أخذ عزيز مقتدر، فبجانب أنهم يحملون يوم القيامة أثقال غيرهم، أيضا هنا يسألون عما افتروا على الله الكذب.
وخلاصة الكلام أن هذه المعالجة القرآنية لتأثير الحشد الجماهير على النفس لو أننا فهمنا هذا المعالجة التي تحذرنا وتجعل لنا حصانة من أن ننجرف مع هذا الحشد، فيفقد الإنسان عقله وفكره ووعيه وإدراكه، ومن ثم يفقد مسؤوليته وإنسانيته.