
المرجع المُدرّسي في درس التدبر الرابع : الجهاد يبدأ من الحلقة الأقرب للإنسان
05 Jun 2023
ألقى سماحة المرجع المُدرّسي دام ظله ليلة الأربعاء الموافق 28 ذو القعدة 1435 هجرية الدرس الثالث من دروس التدبر في القرآن الكريم في سورة العنكبوت الآيات (8-9) وفيما يلي نص الدرس :
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9).
أكثر من محطة فكرية تستوقفنا في تدبرنا لهاتين الآيتين الكريمتين من سورة العنكبوت.
التوازن الحرج بين العلاقة الإيجابية مع المحيط وعدم الانفعال بسلبياته..
بعض الناس يعتزل المجتمع فلا ينعم بخيره ولا يتأثر بشره، ومن الناس من يدخل المجتمع ويقول “حشر مع الناس عيد”، وبينهما إنسان يستطيع أن يعيش في المجتمع ولكن ليس معه، فيهم وليس معهم، كن في الناس ولاتكن معهم. هذا توازن حرج.
والسبب أن الإنسان خلق حضارياً واجتماعياً فلا يمكنه أن يعيش وحده، وهناك أكثر من حي من الأحياء يعيشون مع بعضهم وانتم تعرفون في علم الأحياء أن الأحياء التي تتعايش مع بعضها من الحشرات كالنملة والنحلة إلى الحيوانات الأخرى ربما أكثرها تعيش حياة اجتماعية على اختلاف درجة الحالة الاجتماعية فيما بينها، والإنسان حاله كجالهم ولو كان هو أعلاهم وأشرفهم.
إذاً؛ فليس هناك طريق للعزلة؛ بل لابد أن يكون أُنساً بين البشر، ولعل كلمة إنسان اشتقت من الأنس، والإيناس في الاشتقاق أو الصرف الكبير.
فالإنسان لا يستطيع أن لا يعيش بين بني جنسه؛ ولكن المشكلة أنك كما تؤثر في الناس فإنهم يؤثرون فيك وهذا بداية الجهاد، ألم نقل بأن سورة العنكبوت هي سورة الفتنه؟ وفي مقابل الفتنة فإنا بحاجة إلى الجهاد، والجهاد يبدأ من الحلقة الأقرب للإنسان.
وفي الآية السادسة: وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت : 6]
إذا،ً نحن مطلوب منا الجهاد، ومعنى ذلك أن نصرف المزيد من الطاقة والمزيد من التفكير والمزيد من الصبر والأناة لمواجهة قضية ما.
جهادك أولاً يبدأ مع المحيط، ولكن كيف يؤثر المحيط في الإنسان؟ عبر أقرب المحطات وهم الأبوان، باعتبار تأثيره المحيط عادة يتم عبر الأبوين، لأن الوالد هو الذي يحمل أفكار المجتمع ويحاول أن يقسر الأولاد عليها.
ولذلك فإن الجهاد مع الأب لا يعني الجهاد معه وحده بل جهاد مع المجتمع، وانتم قرأتم وتقرأون قصص إبراهيم مع أبيه وقصة النبي ص مع عمه أبي طالب الذي كانت قريش تضغط عليه ليضغط على النبي ص. وهذه القصص تتكرر بصور شتى.
ولكن ذلك لا يعني أن يتخذ الإنسان موقفاً سلبياً من والديه؛ إنما ينبغي أن يتخذ موقفاً إيجابيًا، والموقف الإيجابي هو موقف العطاء.
الإنسان يخضع مرة خضوع الذل وخضوع الاستسلام، ومرة يخضع خضوع العز وخضوع الإحسان.
أنت رجل مؤمن تسلم على الناس وتبارك لهم وتكون نفسك كالعبد أمامهم، ولكن لا يعني ذلك أنك تخضع لهم خضوعاً تاماً؛ وإنما أنت تعطيهم من نفسك ويدك العليا وهذا يسمى إحسان، والإحسان أن تكون يدك العليا على الوالدين والمجتمع تعطي وتتساير مسايرةً مع المحيط، مع والديك وزوجتك وإخوانك وتكون مرنا، ولكن هذه المرونة لا تعني الخضوع الاستسلام ولا تعني ذل الطمع وخشوع الضعف.
ولذلك قال ربنا بدءاً (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً) وفي بعض الآيات (إحساناً). الحُسن قد يعني التعامل الحسن وقد يعني الحُسن بمعنى الحَسن، وكلا المعنيين من مشكاة واحدة.
وهنا تأتي كلمة الوصية، وقد يتساءل المرء: ما الفرق بين الوصية والأمر، وكيف أن القرآن فيه وصايا وفيه أوامر؟
الجواب على ذلك أن الوصية هي القيمة التي يتحسس الإنسان بها، فالإنسان فطرياً جُبل على أن يحترم والديه، والإسلام لا يقول أكثر من ذلك ولكنه يضع حدوداً للاحترام.
أنا ابن الوالدين، ولكن أنا مخلوق الرب، إذ أن حق الرب مقدم على حق الوالدين؛ فعلي أن أحسن إلى والدي بالممكن، ولكن في حدود طاعة الله سبحانه وتعالى ولا يطاع الله من حيث يعصى، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لذلك القرآن الكريم سرعان ما استدرك فقال: (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) هنا أيضاً تساؤل :
لماذا جاءت كلمة (جَاهَدَاكَ) لماذا لم يقل القرآن “وإن قالا لك أشرك”؟!
لأن الوالدين لا يقولان فقط، وإنما يمارسان أنواع الضغوط على الابن لكي يتخلق بأخلاقهما، طمعاً وخوفاً ورغبةً ورهبةً، وأنت هنا يجب أن تبلور نفسك بين والدين أنت تعيش في كنفهما وهما يخيمان عليك بوارف الظلال، ولكن في نفس الوقت يجب عليك أن تستعيد شخصيتك وكرامتك، وتعتمد على الله وعلى شخصيتك.
(وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ) ما هو الفرق بين هذا التعبير في هذه الآية وبين قوله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ ..) [لقمان : 15] في سورة لقمان؟
بين (لِتُشْرِكَ) و(عَلى أَن تُشْرِكَ)؟! لا يتضح جلياً الفرق ولكن أفسر فقط معنى (لتشرك)، لعل معنى لتشرك أنهما حين يجاهدانك ويحاولان فرض آرائهم عليك حباً لك وحرصاً عليك ولكن القرآن الكريم مع أنهما عادةً يحبانك ويجاهدانك في الحقيقة برغبة منهما لعيش رغيد لك يريدان لك السلامة عبر الوصايا المعروفة (لا تذهب للجهاد، لا تعارض الحكومات، اذهب بطريقك وارجع فيه.
لم يقول القرآن الكريم: (لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فهل هناك شرك معلوم أو عليه علم وأخر غير معلوم؟
مثلاً يقول لك أحدهم لا تشرب الخمر الحرام فهل هناك خمراً حلالاً؟
هل هذا المتعلق هل هو احترازي أم تأكيدي؟!
هناك نكتة دقيقة وعميقة لابد نستلها من هذه الكلمة فالشرك هو الخضوع لقائد لا يتصل بالله وأنت خضعت له خضوعاً كلياً فهو شرك فقد يكون أمك أو أباك أو قيادة سياسية الاجتماعية الثقافية أي شيئ آخر.
يعني جعل شيء ما أو شخص ما مع الله سبحانه وتعالى الخالق الرازق الواحد الأحد الفرد الصمد فهذا شرك.
فإذاً المعنى هنا عن جاهداك لتتخذ إلهاً قائداً غير الله، وقد يكون غير الله هو نفس الأب أو الأم.
إذاً، فالجهاد سيكون في اتجاه تغيير مسار الإنسان من توحيد الله توحيداً في العقيدة وتوحيداً في السلوك، وتوحيد الله في السياسة في الثقافة في الاجتماع في كل شيء.
هذا هو معنى الشرك ولكن لماذا قال “ما ليس لك به علم”؟!
نحن كبشر نطيع الله ولكنا لا نراه ولا أن ربنا ينزل على كل واحد منا كتاباً ويوحي لكل واحد منا وحياً، فإذاً لابد أن تكون هناك وسائط بيننا وبين ربنا الأنبياء والرسل وبالتالي فالواسطة الذي هو النبي مثلاً هو في الحقيقة طريق إلى الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ..) [النساء : 59].
ولكن هذا الواسطة إن كنت تعلم أنها من عند الله فطاعتك لها محض الإيمان، وإن لم تكن تعلم فهو شرك.
إذاً، فالشرك هو أن تستمع إلى أحدٍ يدعي شرعية القيادة لك دون أن يثبت ذلك لك بالبرهان القاطع، وبالعلم الواضح.
ربما يكون الأب مقتنعاً بأن الطريق الذي لديه هو الله ولكن قناعة الأب لا تكفي عن قناعتك، علمه لا يغني عن علمك.
فيلزمك أنت أن يكون لك علم أن هذا هو طريق على الجنة ام إلى النار.
لماذا؟
لأنه إذا كان هذا الطريق وصلت إلى النار فهل يستطيع أبوك أن يخرجك من النا؟
إذاً هنا نستفيد نقطة حساسة بأن الإنسان في خضوعه لمن يدعي أنه داعٍ إلى الله يجب ان يكون على علم.
وإن الظن لايغني عن الحق شيئا فالظن لا يكفي ، فالتظني والتمني أو أن الناس قالوا “وحشرٌ مع الناس عيد!!”
لا..
لذلك فالإمام الحسن المجتبي صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين يقول: (أو حشرٌ مع الناس في النار عيد)؟ فإذا ذهب الناس أذهب معهم؟
إذاً هذه الكلمة كلمة شيطانية فأنت إنسان عليك أن تكتشف الواقعوان تعرفه.
(وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) الطاعة ممنوعة وكلمة (تطعهما) تعطي معنى الشرك ففي ذلك اليوم تكون مشركاً إذا أطعتهما من دون علم، ثم يقول سبحانه: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فإذا مات هذا الإنسان رجع الله.
وهنا أيضاً القرآن يثير فينا حاسة الخوف منه سبحانه بسبب انه يحيط بنا علماً، وليس فقط أنه يحيط بنا علماً وغنما يحاسبنا وليس فقط يحاسبنا بل يشهد علينا بصورة واضحة حينما ينبهنا للعمل الذي قمنا به.
وإنباء الله قد يكون مجرد عتاب ومرة يكون مع العقاب وأعوذ بالله من عتابه ومن عقابه.
والتساؤل الأخير في الآية التالية: لماذا قال ربنا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)؟!
ما هي علاقة هذه الآية بالآية السابقة؟
هنا أيضاً يحتاج المرء لقدر من التدبر والتأمل، فالتدبر هو الجسر الموصل بين العقل والوحي.
فأنت تستثير عقلك بالوحي، تفعل ضميرك ومكونات وجدانك بالعقل.
والجواب على ذلك أن الصالحين يشكلون قوة بديلة عن الوالدين وعن المجتمع الفاسد، وكم رأينا كيف أن بعض الناس لفظهم مجتمعهم بسبب تمسكهم الشديد بالدين، ثم أنهم وجدوا في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، فوجدوا أناساً طيبين وجدوا الأنس والانسجام معهم كانوا أرحم بهم من الآباء والأمهات وعاشوا في كنفهم عيشة مريحة جداً، ولذلك ربنا هنا يؤكد أن لا تخف من الطرد فيما إذا وصل الأمر للخط الأحمر بين الشرك وبين التوحيد فاختر التوحيد وسوف يغنيك الله سبحانه وتعالى من فضله.
يقول ربنا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي لندخلنهم في الصالحين في الآخرة وكذلك لندخلنهم في الصالحين قبل الآخرة.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين