
تدبرات المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس:23
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فيها حَريرٌ (33) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فيها لُغُوبٌ (35) وَ الَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمينَ مِنْ نَصيرٍ (37)}
هذه المجموعة من الايات تجعل الفرد امام طريقين متمايزين، فاما ان يبلغ المرء قمة القمم، واما يسقط الى اسفل سافلين، وعموماً فإن الايات القرآنية لا تدع للانسان طريقاً وسطياً بين هذين الطريقين، فاما الجنة واما النار، ولا ثالث لهما.
فالإنسان مسؤول عن نفسه ومصيره، فهو قبل الامانة التي حملها بعد ان أبت السموات والارض والجبال ان يحملنها، ومن هنا ؛ فلا يمكن للمرء ان يكون لا ابالياً، وغير مكترث لمصيره ومسيره، فهو بحاجة الى قرار حازم ومصيري في اختيار الجنة، اما النار والهاوية، فلا يحتاج الى قرار مسبق، فأن الانسان يسير – شاء ام ابى – نحوها، الم يقل الله سبحانه وتعالى: (وَ الْعَصْر* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفي خُسْر)[1]، ويكون مثله كمثل سائق سيارة تسير في طريق صعود، فانه بحاجة دائمة الى ضخ الوقود، وتوقفه عن ضخ الوقود يعني رجوع السيارة القهقرى.
وهكذا ؛ فان على الانسان ان يسعى في تحسين واصلاح سلوكه دوماً، ليكون اهلأً للجنة وعتيقاً من النار، فإن أحس بصعوبة الامر – رغم رغبته في الصلاح – فعليه ان يتامل في اعماله، ويحاول تغيير عمله الذي اعتاد عليه، او ينظر الى اصحابه، فيغير علاقاته الاجتماعية لاجل اخرته.
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَه}
ان اصحاب الجنة يسعون بانفسهم للدخول الى الجنة رغبة فيها، اما اهل النار فيجرون الى نار جهنم جرّاً ويؤخذون من النواصي والاقدام.
وهم يدخلون جناناً وارفة، كثيرة الضلال، متنوعة الثمار، بهية المنظر، وهي في نفس الوقت (عدن) اي خالدة، فلا خريف او شتاء يعتري ربيع الحياة في الجنة.
{ يُحَلَّوْنَ فيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فيها حَريرٌ}
بعد ان تشبّع حاجات الانسان الضرورية، يبدأ بالبحث عن الكماليات والتجملات، وهكذا فإن اهل الجنة بعد دخولهم الجنة وتنعمهم بالاطعمة والاشربة المتنوعة، فان الدور يحين للزينة، فيجمّلون بأسورة من ذهب، وسائر الاحجار الكريمة، كما ان لباسهم من حرير.
سبب الحزن
{ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}
يدخل المؤمنون الجنة، ويشكرون الله على اذهاب الحزن من قلوبهم وتخليصهم منها، ذلك لأن سبب الحزن في الدنيا، يكون احد امرين:
اما بسبب افتقاد شيء يهم الانسان، كان يفقد المرء مالاً خطيراً، او صاحباً عزيزاً، او.. فإن الحزن يخيم على قلبه، واما ان يكون السبب في الحزن هو الاعمال السيئة التي اقترفها الانسان في سالف ايامه، فيحزن من تذكرها، مخافة عدم مغفرة الرب عزوجل.
اما من يدخل الجنة فانه يتنفس الصعداء، حيث غفر الله ذنوبه جميعاً، بل وينسي المؤمن ارتكابه للذنوب، لكيلا يعيش حالة وخز الضمير.
وكذلك يجازيه الله على اعماله في الدنيا، لئلا يتحسس بأن اعماله كانت دون فائدة، يقول تعالى (ان ربنا لغفور شكور)، فمن جهة يغفر ومن جهة يشكر اعمال الانسان في الدنيا.
ان ثمن الجنة اعلى بكثير من اعمال الناس، ولا يدخل احدٌ الجنة الا بفضل الله سبحانه، ولكن بالرغم من ذلك، فان الله يشكر المؤمن، فيحسسه بأن الجنة كانت جزاءاً لاعماله، قال تعالى: (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلين)[2].
{ الَّذي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فيها لُغُوبٌ}
الجنة دار المقامة لهم، اي خلودهم في الجنة، ومعنى الخلود يستفاد من الجمع بين لفظتي الدار المقامة، وما اعظمها من نعمة، حيث يبقى المؤمن خالداً في النعيم ابد الأبد، فقد روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: إِذَا أَدْخَلَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ جِيءَ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ قَالَ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَسْمَعُ أَهْلُ الدَّارَيْنِ جَمِيعاً يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ النَّارِ فَإِذَا سَمِعُوا الصَّوْتَ أَقْبَلُوا قَالَ فَيُقَالُ لَهُمْ أَ تَدْرُونَ مَا هَذَا هَذَا هُوَ الْمَوْتُ الَّذِي كُنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا قَالَ فَيَقُولُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ لَا تُدْخِلِ الْمَوْتَ عَلَيْنَا قَالَ وَ يَقُولُ أَهْلُ النَّارِ اللَّهُمَّ أَدْخِلِ الْمَوْتَ عَلَيْنَا قَالَ ثُمَّ يُذْبَحُ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ قَالَ ثُمَّ يُنَادِي مُنَاد لَا مَوْتَ أَبَداً أَيْقِنُوا بِالْخُلُودِ قَالَ فَيَفْرَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً لَوْ كَانَ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ يَمُوتُ مِنْ فَرَحٍ لَمَاتُوا قَالَ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ قَالَ وَ يَشْهَقُ أَهْلُ النَّارِ شَهْقَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ يَمُوتُ مِنْ شَهِيقٍ لَمَاتُوا وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ[3].
والعطاء هذا، انما يكون من فضل الله، لما يرى المؤمن من النعيم الذي يعلم بأن اعماله لن تجعله مستحقاً لها، فيعترف بأن كل النعيم هناك من فضل الله سبحانه.
ولا تعب في الجنة ابداً، بل هي لذة مستمرة، وراحة خالدة، لا مدخل للمنغصات فيها، ويبدو ان لفظتي (نصب)، و لغوب) انما هي درجات التعب، فالاول يكون المشقة الكبيرة، والثاني التعب الصغير.
{ وَ الَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ }
وفي مقابل تلك الصورة الزهية المشوّقة، بيانٌ لمصير الكفار، الذين يدخّلون الى النار، بسبب اعمالهم التي عملوها، وقوله سبحانه (لهم) يدل على ان النار انما هي لهم، وهم الذين سعّروها بذنوبهم، من كذبة او نميمة، او اكل مال يتيم، او ظلم، او..
{ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها }
يخشى الناس من الموت، ويفرون منه فرار المعزى من الاسد، ولكن الموت من نعم الله على الانسان في الدنيا، لتخليصه من عناء العذاب، والمرض والفقر و..، وحتى هذه النعمة التي يخافها الناس في الدنيا، يفتقدها اهل النار، ويتحسرون عليها، اليست النار دارٌ لا رحمة فيها؟
فلا يموت من يعذّب في النار، رغم شدة العذاب والالم، الذي لو اصابه في الدنيا عشر معشاره لمات مئات المرات.
وقد يعتاد الانسان في الدنيا على العذاب، اما لكونه يعتاد على الالم، واما ان يخف مقدار العذاب بمرور الزمان، اما في نار جهنم، فلا اعتياد على الالم ولا تخفيف ابداً، بل ان العذاب مؤلم كل آن.
{ كَذلِكَ نَجْزي كُلَّ كَفُورٍ}
انها كلمةٌ صاعقة، تملأ قلب الانسان خوفاً ووجلا، فكل انسان يكفر بالله يدّخل هذه النار، ولا استثناءفي ذلك ابداً، اذ لا قرابة بين الله وبين احد من عباده، مثل قول اليهود، حيث قال تعالى عنهم: (وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصير)[4].
والكفر المقصود في الاية لا يعني الكفر بالمعنى المصطلح عليه، من انكار وجود الله سبحانه، بل – حسب التعبير القرآني – ان كل عمل سيئ وانحراف عن الايمان يعد كفراً، فتارك الحج يكون كافراً، وتارك شكر نعم الله يعد كافراً، وهكذا كل من انحرف عن الايمان بالله، يعد كافراً مستحقاً للعقاب.
{ وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُ}
من شدة العذاب تراهم يستغيثون باعلى اصواتهم، ولكن لا مغيث لهم من عذاب الله.
ويتمنون على الله ان يرجعهم الى الدنيا، ليصلحوا اعمالهم، التي طالما زعموا انها اعمال صالحة وحسنة، ولكنهم اليوم – حيث تكشفت لهم الحقائق- يعترفون بسوء عملهم في الدنيا، ويطلبون من الله العودة الى الدنيا.
{ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذيرُ }
وياتيهم الجواب بتوبيخٍ كبير، فيه المٌ نفسي مضافاً الى الالم الجسدي.
فالله قد اعطى لكل واحدٍ عمراً محدداً، يختبره فيه، سواء طال ذلك العمر او قصر، وقد يكون الامتحان في لحظة واحدة وموقف واحد، كما كان امتحان الحر، وفي قباله عمر بن سعد ، فسعد الحر في تلك اللحظة و شقي عمر بن سعد في نفس اللحظة.
ولا يحتاج الانسان ليعمل الصالحات الى لحظة قرار واحدة، اما بعد ذلك فيسهل عليه كل شيء، كمن يقرر في بداية تكليفه ان يصلي لله الى اخر عمره، اترى هل تصعب عليه الصلاة، اما من لم يتخذ القرار ذاته، فانه مستعد لقضاء ساعات طويلة في اللهو واللعب، ولكنه يستصعب السجود لله عزوجل.
بالاضافة الى العمر الذي يتذكر فيه الانسان، فان الله قد ارسل للناس النذر، من نبي وامام، وداعية الى الله عزوجل، وحتى مواقفٌ يمر بها الانسان يتذكر فيها القيامة، فانها من النذر، كمن يحمل على كتفه جنازة عزيز له الى المقبرة، اليس في ذلك عبرة له، بأنه سيحمل في يوم من الايام ؟
{ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمينَ مِنْ نَصيرٍ}
وهكذا يستمر الخطاب بتقريعهم، وينادَون (فذوقوا) جزاءاً بما اسلفتم، و هذه الكلمة تحمل معها الاهانة و العذاب النفسي للظالمين الذين لا يجدون لانفسهم نصيراً يخرجهم من ذلك الهم والغم.
تنزيل: [نشرة البصائر الرمضانية العدد:23]
[1] العصر: 1-2
[2] ال عمران: 136
[3] (280) البحار 8/ 345 و تفسير البرهان في سورة 37 الآيات 58- 61 و 39/ 19.
[4] المائدة: 18