Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الجاثية) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس التاسع)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الجاثية) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس التاسع)

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)}

صدق الله العلي العظيم

القرآن الكريم كتابٌ عادل نزل من ربٍ عادل، ومن سمات عدالته أنه لا يورد الحديث عن يوم الجزاء، الا ويذكر معه الأدلة المقنعة لها، حتى يجد الإنسان صدق هذا الأمر في نفسه وبفطرته، فلا يورد حقيقة الجزاء بشكل سطحي بل بشكل معمّق.
وسنة الجزاء لا تخص الإنسان وحده، بل هي تعم كل موجود، جماداً كان أو نباتاً او من الدواب، بلى يختلف الإنسان – في موضوع الجزاء – عن سائر الموجودات، أن تلك تجازى بفعالها آنياً، أما الإنسان فقد أمهله الله سبحانه ولا يجازيه بأفعاله مباشرة لسنة الإبتلاء والإمتحان، وسنة الجزاء من المحاور الأساسية لسورة الجاثية.
وفي هذه المجموعة من الآيات استمرار للحديث عن لمحات من اليوم الآخر، ونحن في هذه الليلة ضيوفٌ على مائدة آية الجاثية، يقول الله سبحانه:
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}

ما معنى الجاثية؟
الجاثية من الجثو على الركبة، وهي جلسة الخضوع والذل، وللمفسرين معنىً آخر للكلمة أقرب إلى السياق في دلالته، حيث قالوا بأن الجاثية حالة استعداد الإنسان للقيام حيث يضع ركبتيه ويديه على الأرض ليتحرك بمجرد المناداة، ارأيت كيف يجلس العدّاء في حالة الاستعداد منتظراً إستماع صافرة الإنطلاق؟
فكل الأمم تجلس بتلك الحالة باستعداد تام للاستجابة للأمر الإلهي، أو هي جالسة جلسة الذل والخضوع والاستسلام، فما معنى الأمة؟
الأمة، من أمَّ يؤم، اي اتباع مجموعة لشخصٍ ما، مثل اقتداء مجموعة بشخص في الصلاة يجعله إماماً ويجعلهم مأمومين، فالأمة هي مجموعة من البشر يتبعون قائدهم، والمحور هو القائد والإمام، ومن هنا نعرف أن الأمة قد يخلط ابنائها العمل الصالح بالفاسد، ولكن لإتباعهم للإمام الحق فإن الله يشفعّه فيهم ويدخلهم الجنة، كما أن الأمة لو كانت تتبع القيادة الفاسدة والجائرة، فلن ينتفعوا بصلاح الأعمال وكثرة العبادات، ترى هل انتفع معسكر عمر بن سعد بالصلاة خلف قائدهم في يوم عاشوراء؟ صلوا صلاتهم من هنا وقتلوا ريحانة رسول الله بعده، وصلى ابنائهم الصلاة ومن ثم قتلوا المئات في بغداد يوم أمس، فأي صلاة هذه؟ ما دامت القيادة منحرفة لا فائدة من العبادة والصلاة.
ولابد أن أقول للعالم، أن سكوتهم اليوم عن جرائم هذه الزمرة الخبيثة سيولّد اسوء منهم بعد فترة، كما سكتوا قبل سنين عن التفجيرات التي كانت تطال أئمة الجماعة والجمعة فتولدت منذ ذلك الحين بذرة داعش.
ورعاية صاحب العصر والزمان أولاً وبالتبع ادعية المؤمنين في ليالي القدر، هي من البركات العظمى التي تتنزل على هذه الأمة المرحومة، فقبل سنوات هبطت طائرة مسافرين في وسط الصحراء في ليلة القدر وكان هبوطها بسلام في ليلة القدر، وهذه السنة حاولت عناصر داعش أن تشن هجوماً واسعاً على كربلاء المقدسة بأكثر من ثمانمائة مركبة، ودفع الله سبحانه شرّهم ببركة صاحب العصر والزمان وجهود الشباب المؤمن من الحشد الجهادي.
{كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}
لماذا الحديث عن الأمم وليس عن الأفراد؟
هناك آياتٌ كريمة تدل على أن المحاسبة يوم القيامة يكون لآحاد الناس فكلٌ يحاسب بمفرده، كما قال تعالى:

{وَكُلُّهُمْ آتيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدا}[1]،

وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى‏}[2].

ومن ذلك نستفيد أن للإنسان حسابين في القيامة، احدهما خاصٌ به حيث يكون الحساب بينه ويبن ربه، والثاني هو الحساب مع المجتمع، فالذي يعصي الله في الخلوات يحاسب منفرداً، اما المتجاهر بالفسق والذي سكت مجتمعه عن فسقه، يحاسب هو ومجتمع جميعاً، وفي الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام:

“أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَى‏ وَالسَّخَطُ وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَى فَقَالَ سُبْحَانَهُ‏ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ‏ فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ السِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ فِي الْأَرْضِ الْخَوَّارَةِ”[3].
وبين قوسين أذكر للأخوة أن الحديث عن عقر الناقة تكرر في أكثر من حادثة عند اهل البيت عليهم السلام، منها في الحديث عن قاتل أمير المؤمنين عليه السلام، ومنها في يوم عاشوراء عند استشهاد رضيع أبي عبد الله الحسين عليه السلام، لأن الناقة كانت آيةً مبصرة وبعقرها استحق القوم العذاب الأليم.
ومن هنا نعرف أن أمماً كاملة قد يعمها العذاب حيث عمّهم الرضا تجاه المعاصي والموبقات.
وللأمة كتاب مضافاً إلى كتاب كل فرد، وكتاب الأمم هو كتابهم السماوي الذي أنزله الله بينهم، مثل القرآن الكريم والإنجيل والتوراة و.. ويكون هذا الكتاب هو الميزان الذي به توزن أعمال الإنسان في الكتاب الثاني، فما يحوي الكتاب الثاني؟
يحوي الكتاب الثاني كل أفعال الإنسان الصالحة والطالحة بدقة متناهية، حتى ترى المجرمين مشفقين مما أحصاه هذا الكتاب، حتى عدد نبض القلب والأنفاس ورمش العيون و..، قال تعالى:

{وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمَّا فيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا}[4].

{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
هناك يجازى كلٌ ما عمل، أي يرى جزاء كل أعماله بما هي، ولكل فعل جزائين، كيف؟
لتوضيح الفكرة نمثل بما يلي: لو نهيت ابنك عن شرب ماء نتن، فلم ينتهي وشربه، سيمرض ومرضه جزاء شربه للماء، كما انه يستحق عقوبة أخرى هي جزاء عصيانه لأمرك، وكما هناك عقوبات – في المحكمة – ترتبط بالحق الخاص وأخرى تتعلق بالحق العام.
وهكذا أعمال الإنسان، تتجسد يوم القيامة، كما أن حالة العصيان والإطاعة لها جزاء آخر، وإلى هذا النوع تشير بعض الآيات مثل قوله تعالى:

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْديهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُون‏}[5]،

أي جزاءٌ للعمل وآخر يترتب على العصيان أو الطاعة، وذلك لمحل (الباء).
ولكن هذه الآية في سورة الجاثية، تبين أن الأمم يجزون ما كانوا يعملون يوم القيامة، اي إن العمل ذاته يتجسد في القيامة.
{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ}
فالكتاب الإلهي فيه إحصاء تام للعمل، وهو كتاب حق وينطق عليهم بالحق.
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
الإستنساخ هو حفظ نسخة من الأصل، والله سبحانه يستنسخ كل عملٍ يقوم به الإنسان في الدنيا، فالصلاة الواحدة التي يصليها هناك أخرى مطابقة لها عند الله ويأتي بها الرب هناك، وإن كان الإستنساخ عند البشر يطابق الأصل في بعض الجهات مثل اللون والصورة والأبعاد، فإن استنساخ اعمال الإنسان ليوم القيامة مطابق تماماً للعمل.
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
من كان مؤمناً بوجود حسابٍ دقيق واستنساخ للاعمال، وعمل الصالحات واكتسبوا الحسنات، سيلقون نسخة أعمالهم في كتابهم وبذلك تكون النتيجة:
{فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}
أن الله سبحانه يدخلهم في رحمته نتيجة للإيمان وصالح الأعمال، ورحمته تستوجب عظيم العطاء وجزيل الجزاء.
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}
يتطلع الإنسان إلى الأفضل بطبعه، فطينته عجينة بإرادة التسامي والفوز، فهي حالة راسخة في الإنسان، ولكن مشكلة الإنسان تكمن في أنه يخطأ طريق ذلك التسامي، فيظن أنه في جمع المال على المال، او يخال ذلك يكمن في حصوله على المنصب والسلطة و..
في حين أن الأفضل والفوز المبين هو في الآخرة، حين يدخل الله الإنسان في رحمته، فيغرقه بالنعيم المقيم، حتى وإن كان فقيراً في دنياه أو محكوماً في حياته أو .. وكما روي عن سلمان المحمدي رضوان الله عليه ان مستهزئاً بفقره: لحيتك خير أم ذيل الكلب؟، فأجابه سلمان: إن جاوزت لحيتي الصراط فهي أفضل وإلا فذيل الكلب.
محاكمة الكافر
الله سبحانه عادل، ومن مظاهر عدله تعالى، أنه لا يعذّب الكافرين قبل أن يعترفوا بإستحقاقهم للعذاب، حتى أن هناك عدة مواقف للحساب تخص الكافر، وآخرها على شفير جهنم.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}
المؤمن في رحمة الله، أما الذين كفروا فيحاسبهم الرب تعالى، ويخاطبهم:
{أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ}
آيات الله الواضحة والباهرة تليت عليهم، ولكنهم اتخذوا موقفاً مغايراً للموقف الصحيح الذي اتخذه المؤمنون في مقابل الدعوة وآيات الله سبحانه.
{فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ}
الإستكبار على الآيات الألهية دعاهم إلى التكذيب والكفر، والإنحراف العقائدي استتبع انحرافاً سلوكياً حتى صاروا مجرمين.
فلا يمكن أن يكون هناك فساد عقائدي الا ويليه السلوك الفاسد.
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا}
الله حق ووعده حق .. ولكن مشكلة البشر أنه لا يصدق وعد الرب تبارك وتعالى الغني العزيز، والحال أنه يصدق مواعيد الإنسان العاجز.
فحاشا لله أن يكذب الوعد، ولكن إنحراف الإنسان يؤدي إلى عدم الإيمان.
{قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}
اتباعاً للهوى راح هؤلاء يشككون في الآخرة بتبريرات واهية، ما هي، وكيف هي، ومتى هي و.. بأنهم يظنون بالساعة ظناً، وليسوا بمستيقنين بصدق وعد الله سبحانه.
وهذه التبريرات هي في واقعها أشد من عدم إيمانهم، فحين لا يصلي المرء فهو عاصي ويستحق عقوبة معينة، ولكنه حين يترك الصلاة مشككاً في أصل وجوبها (تبريراً لتركه لها) فإن عقابه أشد، ومن هنا نعرف أن تبرير الأنحراف اسوء من الإنحراف ذاته، وبذلك يستحق أشد العقاب.
ومن ثم فإن جهل الإنسان بحقيقةٍ ما أو تشكيكه بها لا يبطلها، فعدم قبول هؤلاء بالقيامة لا يعني عدم قيامها، بل يوم القيامة يحاسبون حتى على عدم علمهم بوجود الحساب، وفي ذيل الآية الشريفة: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ[6]}،

قال الإمام الصادق عليه السلام: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدِي أَكُنْتَ عَالِماً فَإِنْ قَالَ نَعَمْ قَالَ لَهُ أَفَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ‏ وَإِنْ قَالَ كُنْتُ جَاهِلًا قَالَ لَهُ أَفَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ فَيَخْصِمُهُ وَذَلِكَ‏ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ”[7].
ومن هنا اوصي نفسي وأخوتي بالتفقه في الدين، وتعلم الأحكام الشرعية خصوصاً ما يرتبط منها بالحياة اليومية، ولا يقولنّ احدٌ أني كبرت في السن لأن الموت بعلم خيرٌ من أن يموت الإنسان وهو جاهل، فعسى ان يتعلم المرء فيما تبقى من حياته علماً يصحح به اخطائه السابقة، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:

“إِنْ أُجِّلْتَ فِي عُمُرِكَ يَوْمَيْنِ فَاجْعَلْ أَحَدَهُمَا لِأَدَبِكَ لِتَسْتَعِينَ‏ بِهِ‏ عَلَى‏ يَوْمِ مَوْتِكَ فَقِيلَ لَهُ وَ مَا تِلْكَ الِاسْتِعَانَةُ قَالَ تُحْسِنُ تَدْبِيرَ مَا تُخَلِّفُ وَ تُحْكِمُهُ “[8].

نسأل الله سبحانه أن يوفقنا للعلم واليقين ويجنبنا الشكوك والظنون، انه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة مريم : الآية 95
[2] سورة النجم : الآية 39
[3] بحار الأنوار : ج11، ص 379
[4] سورة الكهف : الآية 49
[5] سورة النور : الآية 24
[6] سورة الأنعام: الاية 149.
[7] الآمالي ( للمفيد ) 228
[8] الكافي : ج8، ص 150