Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السادس عشر)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السادس عشر)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34)وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى‏ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)}

صدق الله العلي العظيم

قبل أن نتدبر في هذه المجموعة من الآيات لابد من بيان نقطتين:

بين الحاضر والمستقبل

الأولى: في بداية السورة قال الله سبحانه: { إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها}[1]، ولكن هذه الزينة ليست دائمية وابدية { وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزا}[2]، بمعنى أن الإنسان لو كان ينظر إلى عواقب الامور فيفكر في المستقبل وما ستؤول إليه الأمور، أما إن لم يكن بعيد المدى إهتم بوضعه الحاضر، والحلال والحرام دائماً هكذا، حيث يكون الحلال العاقبة، بينما الحرام هو الحاضر، ولو صبر عن الحرام سيرزقه الله من الحلال كما بينت النصوص.

ولتثبيت هذه الفكرة يذكر الرب سبحانه عدة قصص قرآنية، منها قصة أصحاب الكهف الذين لم ينظروا إلى ما لديهم من منصب وزخرف، بل رموا بناظرهم إلى ما أعد الله للمؤمنين من عظيم الجزاء، فإنتهى بهم المطاف أن يبني أهل المدينة مسجداً على محل نومهم ليكون ذكرى لهم، كما أن الجنة نصيبهم في الآخرة.

والقصة الأخرى هي قصة الرجلين الذين يذكرهما الله سبحانه، وأن أحدهما إهتم بالدنيا وما فيها بينما الثاني ألقى بناظره إلى الآخرة، وكان مصير الأول الندامة والخسران، وهذه هي القصة الدائمة للدنيا ولكن لا ينتبه الناس إليها.

الدنيا وموقف الإنسان منها

الثاني: مواقف الناس تجاه الدنيا على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: هم الذين يطلقون الدنيا تماماً وينزوون عن الدنيا ويجلسون في زوايا بيوتهم.

القسم الثاني: يأتون إلى الدنيا ويعبدونها فتركبهم وتحكمهم.

القسم الثالث: يأتون إلى الدنيا ويحكمونها ويحققون قيمهم عبر الدنيا.

ولابد أن نكون من القسم الثالث، إذ لا يمكن أن نترك الدنيا تماماً، لوجود مسؤوليات على عاتقنا من أهلٍ وعيال وأخوة، وكذلك لا يمكن أن نكون محكومين ومنبهرين بالدنيا،  فليس الزهد أن لا تملك شيئاً إنما الزهد أن لا يملكك شيءً ” كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، والبعض لا يملك البيت والسيارة بل يملكانه لأنه يصير عبدٌ لهما، او تراه يضيّع نفسه وقيمه وإنسانيته لمنصبٍ وكرسي، كما فعل حميد بن قحطبة الذي نحر ستين علوياً بأمر هارون الرشيد من أجل ملك ري.

فمن الخطأ إذاً أن نكون من القسم الأول لأن الوظائف الشرعية والواجبات الإنسانية تقتضي الدخول في خضم الحياة، والإنطواء على الذات يعني التقصير فيها، فلابد أن يقوم المؤمن بوظيفته الشرعية والإجتماعية والحضارية، بأن يكون مساهماً في تنمية وتطوير الأمة الإسلامية ولكي تكون كلمة الإسلام هي الحاكمة في العالم.

على المسلمين أن يكونوا هم المسيطرين في العالم كله، لا أن يكونوا محكومين، فالإسلام الحقيقي الذي جاء به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله جعل المسلمين خير أمةٍ أخرجت للناس وجعل المسلمين قوة عظمى في العالم كله، بينما اليوم يخسر المسلمون هويتهم وبذلك يخسرون كل شيء.

كما أن يكون المرء من القسم الثاني مغتراً بالدنيا ومنبهراً بها ولاهثاً وراءها هو خطأٌ جسيمٌ أيضاً.

وقد باتت هذه القضية مثلاً للناس علّهم يفيقوا من غفوتهم:

{ وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً }

المثل هو الجزء الواضح والبيّن من الحقيقة، ولذا يقال إضرب مثلاً لوضوحه ولأنه أيضاً يوضّح كل الحقيقة.

ولكن بماذا يأمر الله نبيه أن يضرب مثلا؟

{رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ}

مثلاً برجلين أعطينا لأحدهما جنتين، فالجنتان بعطاء الله وبجعل الله سبحانه لا الفرد ذاته ، والجنة هي البستان الذي لا تصل الشمس إلى الأرض بسبب كثافة الأشجار والأغصان.

{ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32)}

الجنتان كانتا من عنبٍ في الوسط يحيط بها النخيل وبين الجنتين منطقة فراغ لزراعة الغلات والمحاصيل الزراعية.

{ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) }

قد تمنع الشجر ثمارها في بعض المواسم، ولكن ذلك الموسم آتت الجنتان كل ما فيها من ثمار ولم تمنع منه شيئاً، ومضافاً إلى كل ذلك كان النهر الذي فجره الله سبحانه خلال الجنتين، وربما كان هو سبباً في عدم ظلم الأشجار شيئاً من ثمارها.

التفاخر بعطاء الله

{وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ}

إغتر الرجل بما آتاه الله من الثمار، فابتدأ بحوار الفخر مع صاحبه فقال له:

{ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34)}

إفتخر بماله وبمن حوله من الرجال الذين يبحثون عن المال ، فقال لصاحبه أنا أكثر منك مالاً وثروةً وأكثر قوة بشرية غافلاً عن أن من حوله من الرجال والعبيد و..، إنما تجمعوا حوله ليستفيدوا من ماله لا أكثر، ولو زال المال انفض الرجال.

{وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ }

دخل الجنة ليستعرض بما أوتي وهو ظالمٌ لنفسه بما يفعل دون أن يشعر، ظلم نفسه وفقد عقله لإغتراره بأشجارٍ وثمارٍ زائلة ، ولكنه قال:

{قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً (35)}

إعتبرها خالدة كما إعتبر نفسه ضمناً خالداً أيضاً، ولكن كل ذلك دون برهان ودليل، وهل ثمة خلود في الدنيا؟

إنكار المعاد

{ وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً }

ظنه الأول أدّى به إلى الظن الثاني الذي مفاده تكذيب الآخرة، وإنكاره للمعاد كان بسبب محوه في ما لديه من مال ورجال، كما يفعل أصحاب الثروات اليوم في تهربهم من التفكير في الموت وما بعده من حساب.

{وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى‏ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) }

قال أيضاً: لو افترضنا جدلاً وجود الساعة، فسيكون نصيبي خيراً من هذه، أوليس الله الذي أعطاني هذه الجنات في الدنيا آتانيها لحبه لي سيؤتيني مثلها في الآخرة أيضا؟

كلا؛ إن معايير الآخرة تختلف عن معايير الدنيا تماماً، فالمال والمنصب والجاه قد تنفع الإنسان في الدنيا ولكنها لن تفيده في الآخرة، فكما لا تنفع عملة بلدٍ في بلدٍ آخر، كذلك لا قيمة للمال في الآخرة، بل القيمة للإيمان والعمل الصالح.

إن مشكلة أغلب الناس هي في عدم إيمانهم الحقيقي بالموت وما بعده، فهم يؤمنون بالموت وبكونه حق ، ولكن للجار، بينما هو للجميع وكلنا يذهب إلى ربه، وتبدأ مسيرته في القيامة ،وتبقى الحياة من بعدنا إلى أن يشاء الله سبحانه، قال أمير المؤمنين عليه السلام وَ قَدْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ وَ نَحْنُ لَكُمْ خَلَفٌ وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ أَمَّا الْمَسَاكِنُ فَسُكِنَتْ وَ أَمَّا الْأَزْوَاجُ فَنُكِحَتْ وَ أَمَّا الْأَمْوَالُ فَقُسِمَتْ هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا فَلَيْتَ شِعْرِي مَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ ثُمَّ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِنْ نَطَقُوا لَقَالُوا وَجَدْنَا التَّقْوَى خَيْرُ زَادٍ.[3]

نصيحة المؤمن

{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)}

إنتقل الحوار إلى صاحبه، فأنكر عليه كفره بهذه السهولة، ولكن لم نجد من الرجل كفراً فلماذا نسب إليه الكفر؟

صحيح إنه لم يكفر بالله صراحةً ولكن مؤدى كلامه ذلك كان هو الكفر، حيث اغتر بالمال وإعتبره من كد يمينه، مضافاً إلى تكذيبه بالمعاد وظن الحصول على خير منها من الله سبحانه.

فهو في نهاية المطاف كفر بالرب الذي أوجده لا من شيء، خلقه طوراً بعد طور، من ترابٍ ثم من نطفة ثم نقله من مرحلة إلى أخرى حتى صار رجلاً مستوياً.

{ لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)}

بينما أنا فأعبد الله سبحانه ولا أشرك به أحداً مهما تغيرت ظروفي، ومهما آتاني من نعم.

 

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن يهتم بالآخرة ولا ينس نصيبه من الدنيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة الكهف: الآية 7

[2] سورة الكهف: الآية 8

[3] بحار الأنوار: ج75، ص 71