Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السابع عشر)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السابع عشر)

بسم الله الرحمن الرحيم

{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى‏ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَ أُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏ ما أَنْفَقَ فيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَني‏ لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)}

صدق الله العلي العظيم

الأحاديث الشريفة المبينة لأول الخليقة مختلفة، فمنها ما تبين أن أول شيء خلقه الله هو المشيئة وبالمشيئة خلق سائر الأشياء، ومنها ما تبين أن أول ما خلق الله سبحانه هو العقل، وفي رواية ثالثة نور نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، ولكن يمكن أن تجمع هذه الروايات المختلفة في إطارٍ واحد، فالحقيقة واحدة بالرغم من اختلاف التعابير.

وبناءاً على أن العقل هو نور نبينا وأنه هو المشيئة، يمكن جمع الروايات.

خلق الله العقل من نورٍ مكنونٍ عنده وكما قال الإمام الباقر عليه السلام: ”  لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ فَقَالَ وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْكَ إِيَّاكَ آمُرُ وَ إِيَّاكَ أَنْهَى وَ إِيَّاكَ أُثِيبُ وَ إِيَّاكَ أُعَاقِبُ”[1]، وبعد أن خلق الله الإنسان على هيئة الذر وأخرجهم من ظهور آبائهم، خاطبهم الرب قائلاً: { أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلين‏}[2]. وهذا هو الميثاق.

وفي يوم الميثاق بعالم الذر أشهد الله سبحانه ملكاً على شهادات الخلق ودونها في طومارة وابتلعها ثم أنزل الله سبحانه الملك إلى الأرض على هيئة الحجر وهو الحجر الاسود، وما يقوم به الحاج عند استلامه للحجر هو تأكيد الميثاق وتأديته ليشهد الملك ( الحجر) له بالموافاة يوم القيامة.

وبعد العقل والفطرة بعث الله سبحانه الأنبياء ليستأدوا الانسان ميثاق تلك الفطرة ويثيروا له دفائن عقله المدفون تحت الركام، كما قال امير المؤمنين عليه السلام: ” فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول‏”[3].

وفي مقابل هذه الثلاثة هناك جهل الإنسان وغفلته، وبسببهما يخطئ في مسيرته كلياً، فتراكمت على عقله وفطرته حجباً جعلتها مدفونة وهي :

اولا:ً الآباء، فالحجاب الأول هو الإتباع الأعمى للآباء الذي كان سبباً وراء إنحراف الكثير من البشر، حين اعتبروهم معيار الصواب والخطأ، قال الله سبحانه: {  وَ إِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُون‏}[4].

على الإنسان أن يترك طاعة الآباء إن كانت مخالفة للعقل والشرع مع إحترامه لهم وإحسانه إليهم، قال الله سبحانه:{ وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بي‏ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون‏}[5].

ثانياً: الخضوع للمجتمع ، فبعد أن يتبع الآباء ويخضع لهم تبدأ مسيرة الخضوع للمجتمع، حيث يخضع وبطابع حس التوافق الإجتماعي لمحيطه، حتى قيل بعدم وجود إرادة للفرد في مقابل الروح الإجتماعية.

ثالثاً: والقوة السياسية هي المحطة الثالثة لإنحراف الإنسان وهي الحجاب الثالث على عقله وفطرته، وهي ناشئة من المجتمع أيضاً، ويعبر القرآن عنها بـ ( الطاغوت) الذي يفرض قوته وثقافته على المجتمع رهباً ورغباً.

وهذه الحجب الثلاث تجر الإنسان غالباً إلى ثقافة الشرك، الناشئة من الإغترار بالدنيا وتكذيب الآخرة، وبذلك تكّون للإنسان ثقافة التشكيك بالحقائق..ثقافة العصبيات والقوميات التي تظهر على السطح كلما ضعفت الروح الدينية.

وتتوافق هذه الثقافة مع اهواء الإنسان وشهواته، اليست توفر له مصالحه ورغباته؟ بلى؛ ولذلك فإن محاربة هذه المجموعة من الثقافات الباطلة بحاجة إلى قوة جبّارة، تكمن في معالجة جذور المشكلة، والتي يختصرها القرآن الكريم في كلمتين هما الأنانية والهوى، قال الله سبحانه: { وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏*  فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏}[6].

دور الإرادة

وبين الحجب الثلاثة والأنوار الثلاثة يأتي دور الإرادة ليختار بينهما الطريق، قال الله سبحانه: {  إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُورا}[7]، وقال تعالى أيضاً: {  وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْن‏}[8]، فأي سبيلٍ تختار وأي طريق ستسلك؟ إنه إختيارك وعليك أن تختار أحدهما.

ولحظة إرادة لإختيار طريق الحق يؤدي إلى أخذ الرب بيد المؤمن، وتيسير أموره وتغليبه على كل شيء، وهكذا المؤمن لا يخشى من دون الله شيئاً لأنه إختار جانب القوة.. جانب الله العزيز، قال الله سبحانه: { قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُم‏}[9].

حوارٌ بين مؤمنٍ وكافر

في المثل الذي ضربه الرب سبحانه عن الرجلين كانت في هذا الإتجاه ، حيث اختار أحدهم جانب الدنيا، بينما أختار الثاني الله سبحانه وطريقه، فحين افتخر الأول بما يملك من مال ورجال وثمارٍ متنوعة من جنتيه العامرتين راح يكّذب بالآخرة ويشرك بربه ، قال له صاحبه الذي عزم على عدم الشرك بالله سبحانه واختار الجنة مصيراً نهائياً له :

{ لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) }

لا أبيع عبادة الرب وإيماني بالله سبحانه بتمرٍ وعنب ومجموعة من الرجال وبعض الأموال، فلا أشرك بالله سبحانه أحداً.

{وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ }

راح المؤمن ينصح صاحبه بقوله: لولا أن تقول ما شاء الله عند دخولك جنتك، فكل ما فيها من نعم هي تجليات لمشيئة الله سبحانه وقوته:

{لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ }

قوتك وأياديك العاملة و.. كلها من الله سبحانه فلا تغتر بما تملك.

لماذا هذه النصيحة؟

لأن البشر – عموماً- ضيق الأفق ووعاء روحه هو الأخر صغير وضيق، ولذلك يخسر نفسه بمجرد حصوله على شيءٍ من المال والمنصب والجاه والعلم، فكما ينهد ركن البدن إذا حمّل أكثر من إمكانيته، كذلك لا تتحمل الروح الثقل ولا يمكنها أن تهضم الأنباء الخطيرة محزنةً كانت أو مفرحة.

ومن هنا؛ إمرنا بأن نذكر الله سبحانه كلما واجهنا شيئاً عظيماً أو سمعنا خبراً هاماً فنقول ( سبحان الله) لكيلا تنهدّ الروح أمام ما ترى أو تسمع، ولا يغتر الإنسان بما آتاه الله سبحانه من نعمة.

{ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39)}

إنطلق المؤمن من الواقع الذي جعل المقابل يتفاخر عليه وهو قلة المال والولد، فقال : إن كنت أنا أقل مالاً وولداً منك، لا يعني أن ذلك أمرٌ دائم : بل ربما يؤتيني الله خيراً مما تملك:

{ فَعَسى‏ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً (40) }

فربما يبدلني الله بجنتك قصراً، أو أولاداً صالحين يكونوا خيراً من كل ما تملك، أو يؤجل الله الإنعام علي ليوم القيامة.

وفي المقابل، من قال لك بأن جناتك خالدة؟

فربما يرسل الرب سبحانه عليها عذاباً تحولها أرضاً طينية زلقة بعد أن كانت أرضاً عامرةً بالأشجار والثمار.

{أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً (41)}

والإحتمال الآخر لتدمير جنانك يكمن في جفاف النهر وعدم وصول الماء الى الزرع، حيث تجف العروق وينتهي كل شيء في الجنة.

{وَ أُحيطَ بِثَمَرِهِ }

لا يحدثنا السياق عن كيفية تدمير الجنتين، ولكن يذكر العاقبة ، وهي أن الثمار قد انتهت، وكانت تلك ساعة ندامة الكافر:

{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏ ما أَنْفَقَ فيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها }

دخل جنته وهي خاوية وقد انتهى كل شيء، فصار يقلب كفيه –دلالة على الندم – على ما بذله من مال ومجهود لإحياءها، ولكن الندم الحقيقي كان في شركه بالله سبحانه:

{وَ يَقُولُ يا لَيْتَني‏ لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)}

 

لم يذكر الله سبحانه إسم الرجلين، كما لم يذكر أسم الجنة ومكانها وسائر التفاصيل الهامشية، لكي نستفيد من هذا المثل عبرةً لانفسنا، إذ تتكرر هذه القصة في حياة البشر، فقد يكون كل واحدٍ منا بدل المغتر الذي ندم في نهاية المطاف، إذا إغتررنا بما آتانا الله سبحانه من نعمة ولم نؤد حقها، وكم هم اولئك الذين حكموا اليوم فصاروا في قعر السجون في غداة الغد وهم يظنون أنهم خالدون على كرسي الحكم.

ومن هنا لابد أن يثير المرء عقله ويستأدي فطرته حين حصوله على نعمة من النعم، لكيلا يخسر نفسه وينسى مكانته، ولو قسنا أي شيء في الدنيا بالعقل والفطرة وبما قاله الأنبياء عليهم السلام، نجده صغيراً ولا يرقى ليكون أكبر منا ، فالإنسان أكبر ومقامه أسمى من كل الماديات إن إنتبه لذلك، وحينذاك يستفيد من كل شيء في الدنيا خير استفادة دون أن تخدعه الدنيا أو تسخّره في خدمتها.

نسأل الله سبحانه أن نكون ممن لم يغتروا بالدنيا.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الكافي: ج1 ،ص 26

[2] سورة الأعراف: الآية 172

[3] نهج البلاغة: خطبته عليه السلام في اختيار الأنبياء.

[4] سورة المائدة: الآية 104

[5] سورة العنكبوت: الآية 8

[6] سورة النازعات : الآيات 40-41

[7] سورة الإنسان :  الآية 3

[8] سورة البلد: الآية 10

[9] سورة الأنعام : الآية 91