
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس الثامن عشر)
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43)هُنالِكَ الْوَلايَةُ ة الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)الْمالُ وَ الْبَنُونَ زينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46)}
صدق الله العلي العظيم
حين قدّر الرب أن يخلق خلقاً يكون خليفته في الأرض ويكون سيّداً على سائر المخلوقات وسخّر ما في الطبيعة لأجله، قدّر له أن يصل إلى منزلة يقول الرب عنه:” عبدي أطعني تكن مثلي، تقول للشيء: كن، فيكون»[1]، إلى حيث يكون جليس الرب كما قال سبحانه: { في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر}[2]، قدر له الرب أن يرتقي حتى قال سبحانه في حديثٍ قدسي: ” لَا يَسَعُنِي أَرْضِي وَ لَا سَمَائِي وَ لَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ”[3].
إختار الرب هذا المخلوق ليكون سيداً على كل المخلوقات، فأحسن خلقه، بل قال حين خلقه: { فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقين}[4]، وأمر ملائكته بالسجود له فسجدوا أجمعين إلا أبليس الذي قاس جنسه ( النار) بجنس الإنسان ( الطين) فلعنه الله وطرده فكان رجيم.
وحين أخبر الرب ملائكته بأنه يريد خلق خليفةٍ له في الأرض أعترضوا بأنه يفسد فيها ويسفك الدماء ولا حاجة لخلقه فنحن الملائكة نسبح لك يا ربنا ونقدس لك، أجابهم الرب قائلاً: { إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُون}[5]، ففي هذا الخلق الأنبياء وأوصياءهم، فيهم النبي محمد صلى الله عليه وآله ووصيه المرتضى عليه السلام، ولم يكن الملائكة يعلمون بهذا الأمر.
الإنسان صاحب الطموح
ومما أودع الله سبحانه فطرة الإنسان أن جعله صاحب همةٍ عالية، فهو بطبعه يطمح للتكامل والتقدم، يرغب في التسامي والتعالي، وما التطور الذي نشهده لدى البشر والطموح الذي نراه فيه حيث يرغب في غزو الفضاء بعد أن ضاقت به الأرض إلا بسبب تلك الفطرة التي بها يريد الحصول على كل شيء.
ولا يريد الدين من الإنسان أن يعمي هذا الطموح ويعطله، ودليله ما نجده عند الأنبياء من الطموح العالي، فمنهم من دعا الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ بعده كالنبي سليمان عليه السلام، ومنهم من دعا ربه أن يجعل له لسان صدقٍ في الآخرين كالنبي إبراهيم عليه السلام الذي يذكره اليوم أكثر من خمس مليار إنسان بخير ويعظمونه.
فالدين لا يعطل الفطرة ولكن يوجهها في الإتجاه الصحيح، فيجعل الإنسان يهدف الغايات العليا لا سفاسف الأمور، ومن أجل تلك الأهداف السامية عليه أن يسلك طريقها الصحيح، وقد قال ربنا سبحانه في سورة الحمد التي هي خلاصة ما في كل القرآن: { اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيم}[6].
وحين نعلم أن الملائكة الذين أمرهم الله بالسجود للإنسان هم المهيمنون على ما في الوجود من شمسٍ وقمر ورياح وسحب و..، حينذاك نستشعر بأهمية إختيار الهدف السامي والطريق المستقيم له، وأن لا نضيّع العمر في الطريق الخاطئ والهدف الخطأ.
وفي قصة الرجلين في سورة الكهف ، اللذين تحاورا بينهما نجد أن صاحب الجنتين عمل كل شيء وأنفق ما يملك في سبيل أحياء الجنتين، ولكنه إنحرف عن الجادة ولم يسلك السبيل الإلهي، فبدل أن يشكر ربه ويسأله المزيد، أعجب بنفسه وأغتر بما يملك فدمّر الله كل شيء.
وداء العجب أسوء داءٍ يمكن أن يبتلى به أي إنسان، لأن بداية إبتلاءه تعني بداية نهايته، كما كانت نهاية فرعون حين إغتر بجنوده وسلطانه، بالرغم من أنه عاين معجزة الرب المبصرة بإنفلاق البحر لموسى عليه السلام وقومه، ولم يدعهم يخرجوا من مصر بسلام ، فدخل البحر فكان من المغرقين، وهكذا كل صاحب سلطان يعجب بسلطانه سيؤخذ من حيث أعجب، والشاب يغتر بشبابه وبطشه وبما يملك من مال فتراه يغتر بسيارته أو دراجته فيقودها بلا إنضباط فتكون عاقبته الدمار أو الموت.
وأغتر صاحب الجنتين بهما وأعجب بما يملك، فشكك في الآخرة وأعتبر عطاء الرب له بسبب حبه له، فقال لو رددت إلى ربي سيؤتيني خيراً منها.
أما صاحبه فنبهه بخطأ طريقته، والصواب في عدم الشرك بالله سبحانه، وبعد النصيحة وعدم الإنتفاع بها عذّبه الرب بإحراق كل شيء، إذ لا يعذب الله سبحانه أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه.
{ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
في الآية الرابعة والثلاثين ذكر الله سبحانه إعتزاز الرجل بما يملك من الرجال والأفراد من حوله، وفي هذه الآية يذكر السياق عدم وجود فئة ينصرونه من الله.
{وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43)}
وحتى لو وجدت الفئة والرجال، فلن يقدروا على مقابلة أمر الله والإنتصار عليه.
{هُنالِكَ الْوَلايَةُ الْحَقِّ }
الولاية بالفتح تعني الصداقة، فالله سبحانه نعم الصديق، والرب سبحانه حقٌ و كل شيء خلقه حقٌ أيضاً ، فالحق جوهر المخلوقات كلها.
{هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)}
فالله سبحانه الحق يشخص الطريق الذي تكون عاقبته الفضلى.
الشاب الذي يلهث وراء أعراض الناس لإشباع الشهوة يسلك سبيل الهلاك، بينما الشاب الذي يشبع شبقه بالزواج الشرعي اختار طريقاً عاقبته الخير، والتاجر الذي يفكر دوماً في الربح بواسطة الغش والكذب لا يفلح، بينما الصادق في تجارته خيرٌ ثواباً وخير عقباً، والحكومة التي لا تعتمد على صناعتها وزراعتها بل تمد يد الإستجداء من الآخرين أو السرقة منهم لا تدوم، بينما الحكومة التي تتوكل على الله سبحانه وتعتمد على قدراتها وإمكانياتها خيرٌ عاقبةً.
وكل ذلك لا يقتصر على الدنيا فحسب، بل هو خيرٌ في الدنيا والآخرة أيضاً.
مثل الحياة الدنيا
{وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ }
يعلن الربيع بداية خيراته فتهطل السماء ماءاً مباركاً وبه تخضّر المزارع والبراري لتكون ذات بهجةٍ للإنسان، ولكن لا تمضي الأيام إلا ويبدأ موسم الصيف الذي يسلب بهجة الربيع فلا يبقى إلا طلٌ، وما أن تهب رياح الخريف إلا وتذروا ما صيره الصيف هشيماً، وينتهي كل شيء..
فكما دائرة الطبيعة ، كذلك دائرة الحياة الدنيا، مع بعض الفارق في المدة الزمنية، حيث تكون في الأول خمسة أشهر أو ستة، وفي الثاني سبعون أو ثمانون عام، تبدأ بالولادة والطفولة ثم المراهقة والشباب، ثم الكهولة والشيخوخة فالموت.
{وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)}
ينتهي كل شيء ويزول ، والله سبحانه هو الباقي، ويضرب الرب مثالاً آخر للحقيقة ذاتها في الآية التالية:
{الْمالُ وَ الْبَنُونَ زينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا }
الأموال والبنون ليست سيئة، ولكنها تبقى زينة يجب أن لا يغتر بها الإنسان، وذلك لأن هناك ما هو خيرٌ منها وأبقى:
{وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46)}
فالذي يبقى هي الصالحات، وهي التي تنفع المرء يوم القيامة.
وقد ذكرنا سابقاً أن كل خمس وأربعين سنة من سني الدنيا تساوي ساعةً واحدة من ساعات الآخرة، فهل يخسر الإنسان كل شيء هناك بلذة ساعتين ( من ساعات الآخرة) في مقابل الخلود في الجنة؟
روي أن أمير المؤمنين عليه السلام اشتهى كبدا مشوية على خبزة لبنة، فأقام حولا يشتهيهاثم ذكر ذلك الحسن عليه السّلام يوما و هو صائم،فصنعها له. فلما أراد أن يفطر قرّبها إليه، فوقف سائل بالباب.
فقال: يا بني احملها إليه، لا تقرأ صحيفتنا غدا «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيَا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها»[7].
وهكذا نجد علياً عليه السلام لم يلتفت إلى الدنيا وزينتها لأنه أراد الآخرة ، بعكس السلاطين الذين نسوا الدار الآخرة وراحوا يلتذون بالدنيا مهما قدروا على ذلك، وقد روي أن المتوكل العباسي استدعى إمامنا الهادي عليه السلام يوماً فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِ وَجَدَهُ فِي قُبَّةٍ مُزَيَّنَةٍ فِي وَسَطِ بُسْتَانٍ وَ بِيَدِهِ كَأْسٌ فِيهَا خَمْرٌ فَقَرَّبَهُ وَ هَمَّ أَنْ يُنَاوِلَهُ الْكَأْسَ فَامْتَنَعَ الْإِمَامُ عليه السلامفَقَالَ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مَا خَامَرَتْ لُحُومُنَا وَ دِمَاؤُنَا سَاعَةً قَطُّ قَالَ فَقَالَ أَنْشِدْنِي شِعْراً .
فَأَنْشَدَهُ الْإِمَامُ عليه السلام بما فيه نصيحة له ولكل إنسان:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْقُلَلُ
وَ اسْتَنْزَلُوا بَعْدَ عِزٍّ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ فَأُسْكِنُوا حُفَراً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا دُفِنُوا أَيْنَ الْأَسِرَّةُ وَ التِّيجَانُ وَ الْحُلَلُ
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُحَجَّبَةً مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَ الْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ تَنْتَقِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْراً وَ مَا شَرِبُوا فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا[8]
فراح المتوكل يبكي وضرب بكأسه على الأرض، ولكن المتوكل نفسه خلع من كرسي حكمه بعد أسابيع أو أشهر من قبل الجيش، وعاقبته في الآخرة العذاب الإلهي الأليم.
نسأل الله سبحانه أن نكون من السالكين سبيل الحق ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]دلائل الصدق لنهج الحق: ج5 ،ص 181
[2]سورة القمر: الآية 55
[3]عوالي اللئالي :ج4، ص 74
[4]سورة المؤمنون: الآية 14
[5]سورة البقرة: الآية 30
[6]سورة الحمد: الآية 6
[7]شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج2 ،ص 363
[8]كنز الفوائد: ج1 ،ص 342