
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس التاسع عشر)
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْمالُ وَ الْبَنُونَ زينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46) وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمَّا فيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَ لا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}
صدق الله العلي العظيم
بين الضغوط اليومية على الإنسان من بيئة وأسرة ومجتمع، من عصبياتٍ وحميات، من شهواتٍ وأهواء وبين الآمال المستقبلية من البرزخ والجنة والنار و..، للإنسان صراعٌ دائم، ولابد من إيجاد التوازن بينهما، فمن جهة تفرض الضغوط نفسها لأنها حاضرة ومباشرة، ومن جهة أخرى ليست الآخرة أمراً هيناً لديموميتها وإستمرارها في مقابل الدنيا الزائلة، فمهما كان الحاضر شديداً إلأ أنه غير دائم، بينما الباقي والدائم هام وإن كان قليلاً، ارأيت لو خيّرت أيها الإنسان بين ألمٍ شديد في رأسك لساعتين و ألمٍ خفيف يدوم معك إلى نهاية عمرك، أيهما كنت تختار؟
بطبيعة الحال ستختار الأول لأنك تعلم أنه يزول بعد قليل، ولا تختار ما به إبتلائك إلى نهاية عمرك، وكان من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام بعد رفع بلية أو دفع مكروه: ” وَ إِنْ يَكُنْ مَا ظَلِلْتُ فِيهِ أَوْ بِتُّ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْعَافِيَةِ بَيْنَ يَدَيْ بَلَاءٍ لَا يَنْقَطِعُ وَ وِزْرٍ لَا يَرْتَفِعُ فَقَدِّمْ لِي مَا أَخَّرْتَ، وَ أَخِّرْ عَنِّي مَا قَدَّمْتَ، فَغَيْرُ كَثِيرٍ مَا عَاقِبَتُهُ الْفَنَاءُ، وَ غَيْرُ قَلِيلٍ مَا عَاقِبَتُهُ الْبَقَاءُ، وَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ”[1].
وبين ضغط الحاضر وأمل المستقبل يبقى الإنسان متردداً في التقديم، وإيجاد التعادل بينهما أمرٌ صعب على الإنسان لطبيعته الميالة إلى الشهوة الحاضرة من جهة وطموحه إلى الكمال الدائم من جهة أخرى.
والعقل يرجح دائماً كفة الدوام على الزوال مهما طال أمد هذا الزائل، وقد قال الإمام الصادق عليه السلام في آخر لإبن أبي العوجاء، في آخر حوارٍ معه: ” إِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ وَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ نَجَوْنَا وَ نَجَوْتَ وَ إِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وَ هُوَ كَمَا نَقُولُ نَجَوْنَا وَ هَلَكْتَ فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَلَى مَنْ مَعَهُ فَقَالَ وَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَزَازَةً فَرُدُّونِي فَرَدُّوهُ فَمَاتَ لَا رَحِمَهُ اللَّهُ”[2].
ترجيح كفة الآخرة
إن ترجيح كفة الآخرة لدى المؤمن تساهم في معالجة الضغوط عليه، فيكون أسمى منها ومن التحديات كلها، فترى الموظف البسيط يرفض قبول رشوة بالف ضعف راتبه لا لشيء سوى أنه يعلم حرمة الرشوة، ولكن في المقابل ترى المتأثر بالدنيا يفعل أي شيء من أجل الحصول على المال أو المنصب، وقد يرتكب أقبح الجرائم في فورة غضب.
ويذهب برتراند راسل في كتابه ( في التربية ) إلى أن تربية المؤمنين بالله واليوم الآخر أبناءهم المبنية على جعل العقبى والجزاء الأخروي نصب عين الطفل خير نمط من أنماط التربية، إذ أنهى تربي في الفرد قوة التحدي للضغوط المفروضة عليه.
القرآن يخلق التوازن
والقرآن الكريم عبر تصويره المستمر والدائم للآخرة وتجسيم مواقفها في الجنة أو النار يخلق حالة التوازن في نفس المؤمن، فإذا ما تأملها المرء وإعتقد بصدق ما جاء به القرآن وأنه حقٌ لا باطل وجدّ لا هزل، سيتوقف لحظة الشهوة أو فورة الغضب فلا يتبعها كما يتبعها غيره ممن أشخص ببصره إلى الدنيا.
نقل أحد الأخيار أنه رآى في منامه أبليس وحوله حبال وسلاسل وبينها سلسلة ممزقة، فسأله عن السلاسل والحبال فقال هي سبله لإجتذاب ولد آدم، فسأله عن السلسلة الممزقة فقال هي سلسلة الشيخ الأنصاري مزقها أمس ولم أستطع إجتذابه.
فذهب الرجل في اليوم التالي إلى الشيخ الأنصاري وسأله عن حاله بالأمس، وبأصراره على الشيخ وإنباءه بالمنام قال له الشيخ بأن زوجته كانت مقربة ولم يكن لديه مالاً سوى مال وديعةٍ لأحد المؤمنين، وكلما أراد أن يأخذ من هذا المال ليشتري لزوجته شيئاً تذكر الآخرة والحساب ودقته، فتراجع عن أخذه المال.
وكم من المؤمنين عاشوا في حياتهم مراعين للموازين الشرعية بدقة متناهية لأنهم أرادوا الآخرة وإنتهت حياتهم كما إنتهت في المقابل حياة اللذين لم يبالوا بالحلال والحرام.
{ الْمالُ وَ الْبَنُونَ زينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا}
إنها زينة وهي تضغط على الإنسان وتجتذبه إليه، ولكن:
{ وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً }
فالعمل الباقي هو العمل الصالح، وليست الباقيات الصالحات مقتصرة على الصلاة والصيام وبناء المساجد وغيرها، بل يمكن أن يكون العمل للدنيا ضمن الباقيات الصالحات، كمن يستحصل المال ليوسع على عياله ويقصد بذلك وجه الله سبحانه، فهو من الباقيات الصالحات، وقد قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله:” خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَ أَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي”[3].
{ وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46)}
محكمة الضمير من أشد المحاكم على الإنسان، ويعيش المجرم والمذنب حالة تأنيب الضمير بصورة مستمرة الأمر الذي يسلبه قراره ونومه، بينما المؤمن بالآخرة يعيش حالة الإستقرار النفسي والطمأنينة التامة من نفسه.
أن يكون الإنسان في مشاكل مالية أو إجتماعية أو صعب ولكن لو قورن بحالة إرتياح الضمير من المستقبل، والأمل بأنه نقي الثوب في الآخرة ستهون المشاكل كلها.
اليوم الآخر
{وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ }
هل هناك أشد من الجبال في الأرض؟
كلا؛ فهي الأكبر حجماً والأثقل وزناً، وبها تضرب الأمثال في الشدة والقوة، ولكن الجبال ذاتها سيجعلها الله سبحانه تسير يوم القيامة، فتكون كالعهن المنفوش الذي يتحرك بهبة ريح أميالاً.
{وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً }
والأرض هي الآخرى يجعلها الرب سبحانه مسطحة بعد أن يسجر البحار فتتخبر مياهها وتندك الجبال، تصير أرضاً مستوية : { لا تَرى فيها عِوَجاً وَ لا أَمْتا}[4].
{ وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)}
حينذاك يحشر الله كل بشر فلا يغادر أحداً منهم ، حتى الجنين السقط يحشره الرب سبحانه – كما تدل على ذلك النصوص- و يبقى الإنسان حينئذ وحيداً لا ينفعه والدٌ ولا ولد، فيخلى بينه وبين عمله.
{ وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا }
مائة وعشرين ألف صفٍ بين مشرق الأرض ومغربها، في حرارةٍ شديدة حتى يلجمهم العرق، وأحسنهم حالاً من وجد موطئ قدم على الأرض.
{لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
ذهبت كل العناوين وزالت كل الإمكانات المادية وإنتهى كل شيء، فيأتي الإنسان كما خلقه الله سبحانه أول مرة عارياً فقيراً.
{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) }
مشكلتكم كانت في عدم إيمانكم لهذا اليوم ، بل عدم تصوركم له، ولو تصور الإنسان ذلك الموقف لكف يده عن كثيرٍ من الإنحرافات، فلو تصوّر المجرم نفسه أمام محكمة العدل ومجازات فعله ، لما قدم على جريمته أبداً.
{وَ وُضِعَ الْكِتابُ }
لكل امرء كتابٌ فيه ما عمله في حياته من حسناتٍ وسيئات، فكل إنسانٍ يلزمه الله طائره في عنقه.
{فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمَّا فيهِ }
لأنهم يعلمون ما ارتكبوه في الحياة فإنهم مشفقين مما في الكتاب.
{وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَ لا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها }
يدعون بالويل على ما في الكتاب من إحصاء لدقائق الأفعال وصغائرها حتى النوايا التي عقدوا قلوبهم عليها.
{وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}
ولا يقتصر الأمر على الكتاب ، بل عملهم ذاته يتجسد أمامهم، ولا يظلم الله سبحانه أحداً من خلقه بل يعاملهم بعدله.
هذه صور من مشاهد يوم القيامة ولابد أن يستذكرها الإنسان دوماً لكيلا ينحرف عن الجادة، كما أنه بحاجة إلى أن يبحث عن شفيعٍ يرتضيه الرب سبحانه ليشفع له عند الله سبحانه، وخير شفيع للمؤمنين هو أميرهم أعني الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي جعله الله سبحانه قسيم الجنة والنار، وكما قال الله سبحانه: { وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُون}[5].
نسأل الله سبحانه أن يشفّعه عليه السلام فينا، بمنّه وجوده وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الصحيفة السجادية: من دعائه عليه السلام إذا دفع عنه ما يحذر او عجل له مطلبه.
[2] الكافي: ج1 ،ص 78
[3] من لا يحضره الفقيه : ج3، ص 555
[4] سورة طه :الآية 107
[5] سورة الأعراف: الآية 46