
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس الثاني)
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) }
صدق الله العلي العظيم
كتابٌ لا عوج فيه
كل آية من آيات الكتاب تحوي في طياتها حقائق الكتاب كله ، وتتجلى فيها ما في سائر آيات القرآن ، إذ الحقائق التي يبينها الرب في الآية إما بالتصريح أو التلويح موجودة في الآيات الأخرى ، بل ربما حوت الآية الواحدة من الحقائق ما يفوق المجلدات من الكتب على إحتوائها.
بل وآيات القرآن الكريم يتجلى فيها كل حقائق الكون ، فهي بمثابة المرآة لما في الخليقة ، فكتاب التشريع مرآةٌ لعالم التكوين ، وقد سهل اليوم إدراك هذه الحقيقة بتطور علم الإستنساخ ،حيث يستنسخون حيواناً كاملاً من خلال أخذ خليةٍ واحدة ، لإحتواءها على كل الصفات التكوينية لذلك الحيوان أو النبات ، فيكون المستنسخ مطابقاً تماماً للأصل.
ومن هنا نجد كيف يستخرج الأئمة عليهم السلام كنوزاً من آيةٍ واحدة ، بل من حرفٍ واحد ، وقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام راح يحدث تلميذه حبر الأمة ليلةً كاملة عن الباء في البسلمة حتى انفلج شعاع الفجر ، وهكذا نجدنا مطالبين بالتوقف عند الآية الواحدة لإستنطاقها والإنتفاع بحقائقها.
وفيما يرتبط بالآية الأولى من سورة الكهف لابد من بيان بعض البصائر التي يمكن إستفادتها منها :
البصيرة الأولى : حمد المنعم
أودع الله سبحانه المخلوقات كلها غريزة السعي نحو المنفعة ، فكل مخلوقٍ مغروزٌ على التحرك تجاه ما يوصل إليه المنفعة ، وهذه الغريزة من أهم الغرائز في كل مخلوق إن لم تكن أهمها ، وبالتوجه للمنفعة تنشأ بينه وبين المسبب لها علقة ، وهذه العلاقة على درجات:
فأولها الإستفادة من المنافع التي تصل إليه من خلال مصدرها ، فالإنسان – مثلاً – يسعى للإستفادة ممن يوصل إليه النفع ، وباستمرار وصول النفع ترتقي العلاقة إلى علاقة الحب ، أوليست النعم تصله عبر هذا المصدر وتلبي حاجاته ؟ فسيكون المصدر محبوباً.
وترتقي علاقة الحب حتى تصل إلى مرحلة إحترام المنعم وتقديسه بأكثر مما يستحق ، بل ربما وصل إلى درجات الشرك ، الذي على الإنسان أن يحذر من الوقوع فيه ولو في أيسر الدرجات ، ففي الدعاء : ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِّ وَ الشِّرْكِ “[1] والشرك في حقيقته جذر أغلب السيئات والخبائث عند البشر.
وأول شركٍ يصدر من الإنسان هو شركه بعبادة آبائه ، ففي مرحلة الصبا يظنهم الذين يرزقونه، فيحبهم ، وتنمو المحبة لتتحول إلى التقديس ومن ثم العبادة ، حتى أن عبدة الأصنام عبدوها لإعتقادهم برسوخ أرواح أبائهم فيها.
وكذلك فإن عبّاد البقر والنجم والقمر والشمس والحجر ، كلهم عبدوها لإعتقادهم الخاطئ بأنها هي سبب منافعهم ، فالبقرة كانت مصدراً للخيرات ، والأجرام السماوية بأشعاعاتها وجاذبيتها هي الأخرى تنفع الإنسان.
فالحب تجاه شيءٍ أو حتى شخصٍ ما إن خرج عن إطاره الصحيح دخل في الشرك بالله سبحانه ، كما فعل اليهود بالنسبة إلى عزيرٍ عليه السلام حين قالوا بحلول الربوبية فيه ، والنصارى بالنسبة إلى النبي عيسى عليه السلام ، وكما فعل بعض الغلاة بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الهادي عليه السلام أيضاً.
ولكن في مقابل من لم يلتفت إلى أن مصدر النعم كلها هو الله سبحانه لا الوسائل الظاهرية ، يكون المؤمن الذي يعرف المنعم الحقيقي ، ولذلك لابد أن يكون الحمد بألف ولام الإستغراق ، فالحمد كله لله سبحانه والحمد المطلق والحقيقي له تبارك وتعالى ، وكما قال ربنا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
بين النعمة والهداية إليها
ونعم الله سبحانه على نوعين : النعمة ذاتها ، والنوع الثاني الهداية إلى النعمة والتمكين من الإنتفاع بها ، أرأيت الذي يملك كنزاً تحت داره ولكن لا يعلم بوجوده أو لا يهتدي إليه سبيلاً هل ينفعه وجود الكنز ؟ كلا ، كذلك فإن الهداية التي يهدي الله سبحانه الإنسان بها إلى النعمة للإستفادة منها نعمةٌ عظيمة ، وكما قال الله سبحانه : { اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيم}[2] فأمام الإنسان ملايين الفرص للتسامي وبلوغ أعلى المراتب حتى يكون في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر ، ويكون قادراً على القول للشيء كن فيكون ، ولكن غفلته عن الطريق وتراكم حجب الجهل والشك والشرك والعصبية بينه وبين النعم الإلهية تحرمنا من الإنتفاع بها ولذلك نسأل الله أن يهدينا إليها وإلى سبيلها.
ومن هنا حمد الله سبحانه لأنه أنزل على عبده الكتاب : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ }، فبالرغم من أن محامد الله سبحانه ليست لجهةٍ واحدة ونعمه تعالى كثيرة ، ولكن هذه النعمة متممةٌ لسائر النعم مضافاً إلى أنها تمنع من تحوّل النعمة إلى نقمة على الإنسان، فالثروة والجمال والجاه والعلم كلها نعمٌ ولكن قد تصبح نقماً على الإنسان إن لم يحسن الإنتفاع بها.
البصيرة الثانية : لا عوج في الكتاب
{ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً}
في هذه العبارة بحثان
الأول : الله سبحانه أنزل علينا عبر نبيه العظيم كتاباً لا إعوجاج فيه ولا إنحراف ولا تعقيد ، ولكن لماذا التعبير بـ( لم يجعل له عوجاً ) ؟ فهل كان من المفترض أن يكون في الكتاب إعوجاج؟ أو هل يصدر من الله سبحانه شيئاً عوجا؟
بمراجعتي للتفاسي عن هذه الآية لم أجد من المفسرين من أجاب عن هذا السؤال ولكن من جهة تصديق القرآن بعضه بعضاً ، ربما يكون البيان التالي فيه إجابة للتساؤل السابق:
وهذه النقطة في فاتحة الكتاب ، فنحن نقرأ فيها : { اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيم}[3] ، يعني الصراط الذي لا إعوجاج فيه ، إذ للوصول إلى هدف ٍما هناك أكثر من طريق ولكن هناك طريقاً واحداً هو الأقرب والأصوب ، ولذلك نسأله سبحانه ذلك ، ولكن هل يكفي ذلك ؟ كلا بل هو : { صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضَّالِّين}[4] ، ويعني ذلك : لكي يصل الإنسان إلى صراطٍ مستقيم عليه أن يتبرأ أولاً من الإعوجاج ، ويجتنب الإنحراف.
فأصل وجودنا – نحن البشر – ظلماني ولذلك فالميل الطبيعي فينا يكون إلى الشهوات والغفلة والإنحرافات ، ولابد أن تكون للإنسان شجاعة كافية للسير بخلاف ميولاته النفسية ، فيرفضها ليصل إلى الصراط الإلهي المستقيم وكما في سورة الزمر : { وَ الَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِباد}[5].
فالخطوة الأولى للوصول إلى هدى الله تكمن في رفض الطغاة وعدم الخضوع لهم ، أما ذلك الذي يسبح ليل نهار بحمد الطغاة والظلمة فلن يصل إلى عبادة الله الحقيقية ، فالتبري من الظلمة مقدمٌ على التولي ، وشهادة التوحيد تبدأ برفض كل الآلهة المزيفة قبل أن تثبت وحدانية الله ( لا إله إلا الله ).
فالله الذي يهدي المؤمنين إلى صراطه المستقيم هو الذي يصونهم من الضلالة وأسوء منها يصونهم مما يسبب غضبه ، ومن هنا كان كتابه الحكيم كتاباً لا عوج فيه ، كتاباً طاهراً { لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون}[6] ، فبدون الطهر لا يمكن الإنتفاع بهدى الله، ولكن من أين الطهارة؟
اولاً من القرآن ذاته ، فقد قال الله سبحانه : { هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَة}[7] ، وثانياً من أعظم مبيّن للقرآن وهو النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ومن بعده أهل بيته الطاهرين.
فلا عوج في القرآن يعني أن الله خلقه مستقيما: { قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقيم}[8] ، بل أنزله وليس للعوج والإنحراف إليه سبيلاً : { لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد}[9].
الثاني: العوَج
كل متحدثٍ قد يحدث عن الوحي ( القرآن والعترة) فذاك كلام الله وأهل بيته ، وقد يتحدث بما يدور في خلجه ، فهو صادرٌ منه ، ولأن وجود الإنسان مشوب بشوائب الأحاسيس والعواطف وملوّث بالعصبيات والشهوات ، فإن كلامه لا يخلو من هذه الشوائب ، فيكون غالباً خليطاً بين الحق والباطل.
والبشر المليء بالأخطاء كلامه هو الآخر مليء بالإعوجاج وإن كان فيه نسَب متفاوتة من الحق ، وكما قيل في المثل ( ضل الأعرج أعوج) ، فلو حللنا كلام البشر حتى الكمليّن منهم والعرفاء ، لوجدنا فيه نسبة من الحق ولكن الحق المشوب بالإعوجاج.
ومن هنا كان علماؤنا يسعون إلى التمييز بين ما هو وحي وبين ما هو إضافات البشر ، فينقحون النسخ ويميزون بين ما هو نص المعصوم وبين ماهو بيان العلماء وتفسيرهم للنص ، لأن المطالب الوحيانية لو صبّت في قوالب أخرى – وإن كانت شعرية- لشابتها بعض الشوائب.
البصيرة الثالثة : عبودية النبي صلى الله عليه وآله
بالعود إلى قوله سبحانه : { أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ} نجد ذكر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بصفته عبداً لله سبحانه ، فهو صلى الله عليه وآله عبدٌ خاضع لله في كل سلوكياته ، مسلّمٌ لربه في جميع مواقفه.
فالنبي الذي جاء بهذا القرآن الذي لا إعوجاج فيه ، جعله الله سبحانه في مرتبةٍ قال عنه : { وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى} [10] ، فكان النبي صلى الله عليه وآله ينطق بمر الحق أي بما هو حقٌ لا يشوبه باطل.
ونحن إذ نحب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله حباً لا حد له ، إلا أن حبنا وإحترامنا وتقديسنا له صلى الله عليه وآله في إطار توحيد الله سبحانه ، فحين نصلي عليه وعلى أهل بيته ، لا نعتبره مستقلاً عن الله بل هو عبد الله ورسوله ، ولذلك نسأل من الله سبحانه أن يصلي عليه.
وربما تكون الصلوات على النبي وأهل بيته ( اللهم صلّ على محمدٍ وآل محمد) من أشرف الأذكار لهذه الجهة ، ففهيا ذكر الله والدعاء الذي هو مخ العبادة ، وفيها ذكرٌ للنبي الأعظم وذكر أهل بيته عليهم السلام ، وبالإلتفات إلى هذا الذكر الذي هو مخ التوحيد يبتعد الإنسان عن الشرك وأدرانه.
الكتاب القيّم
هناك بحثٌ مفصًل عن قيومية الكتاب نبين خلاصته ونؤجل تفصيله للبحث القادم ، وصفوته أن القرآن الكريم ليس كتاباً لا إعوجاج وشوائب فيه فحسب ، بل هو معيارٌ لسائر الأحاديث والكلمات ، فهو يكشف مدى إنحراف سائر الأحاديث و الكتب السابقة.
ومن هنا على المؤمن أن يزيد من تلاوته للقرآن بل عليه أن يأنس بكتاب ربه ويقوي علاقته به، ليستطيع أن يميز الحق عن الباطل بالقرآن الكريم ، حتى يكون القرآن الكريم شفيعاً له يوم القيامة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام : ص 406
[2] سورة الفاتحة : الآية 6
[3] سورة الفاتحة : الآية 6
[4] سورة الفاتحة : الآية 7
[5] سورة الزمر : الآية 17
[6] سورة الواقعة : الآية 79
[7] سورة الجمعة : الآية 2
[8] سورة الحجر : الآية 41
[9] سورة فصلت : الآية 42
[10] سورة النجم : الآية 3-4