Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس العشرون)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس العشرون)

بسم الله الرحمن الرحیم

{ وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُوني‏ وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلاً (50)}

صدق الله العلي العظيم

كان التقدير الإلهي في خلق الإنسان أن يبني الإنسان نفسه ليكون مؤهلاً لتجاوز الإبتلاءات والإمتحانات بتفوق، وشاء الإنسان أم أبى تبقى هذه سنة الله سبحانه التي لا تتغير بأن يجبر الله عبده على الهداية ويضطره إلى دخول الجنة. كلا؛ فالحكمة في جعل الإنسان حراً يختار كيف يشاء طريقه، ومن هنا كان على المرء أن يخطو هو الخطوة الأولى للهدى كي يأخذ الله سبحانه بيده.

والخطوة الأولى هي الأساس وهي بحاجة إلى عزم إرادة ليكون الإنسان من أهل الجنة، قلها لنفسك وإتخذ القرار وسيوفقك الله لما هو أرضى، أما أن تتوقع إجبار الرب لك بدخول أبواب الهدى فذلك لا يكون، والقرآن الكريم يخاطب الناس جميعاً، صغيرهم وكبيرهم، حرهم وعبدهم، ذكرهم وأنثاهم، مؤمنهم وكافرهم، يخاطبهم جميعاً بلسانٍ واحد ويدعوهم لأن يخطو هم خطوات الوصول إلى الهدى أولاً.

إبليس المهتد الذي هلك

كان إبليس من الجن الذين خلقهم الله من مارجٍ من نار، يطيع الله سبحانه في الأرض ويعبده، فرفعه الله إلى مستوى الملائكة فصار يعبد الله معهم، فأعجب بمقامه وكان هلاكه في عجبه بالنفس، وكذا يكون هلاك كل مؤمنٍ وعابد في إعجابه بنفسه وعبادته ودمعته التي يجريها من خشية الله حيث يتحول كل ذلك إلى وبال، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ”  لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْعُجْب‏”[1].

أعجب إبليس بمقامه ولكن لم يبد ما في نفسه، فلم يحاسبه الله، إذ لا يحاسب الله على الصفات النفسية ما لم تظهر، ولكن يفتن الإنسان ليظهر جوهره فيحاسبه حينئذ، وهكذا كان الأمر مع إبليس أيضاً، حيث كان إمتحانه الأكبر في سجوده لخليفة الله في الأرض.

ولا يدرى إمتحان الرب أين يكون ومتى يكون، حيث لا يستشير الرب أحداً في إمتحاناته، وهي تكون صعبة غالباً، كما أمر الناس أن يحجوا إلى بيته الحرام في وادٍ غير ذي زرع، ولم یأمرهم بالحج إلى منطقة طيبة الهواء وسهلة الوصول حيث كان الأمر.

أمر الله سبحانه الملائكة المخلوقون من نور ، كلهم بالسجود لآدم عليه السلام المخلوق من طين، وفي الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش عليهم جميعاً سلام الله، والملائكة المأمورون بالسجود هم المهيمنون على كل الخليقة بأمر الله سبحانه، فأطاعوا جميعاً إلا إبليس الذي أظهر ما كان في نفسه وأعتبر نفسه أعلى من أن تسجد لما خلق الله من طين ظناً منه أن النار التي خلق منها أفضل من طين لازب، فتكبر..

الكبرياء رداء الله سبحانه ولا يتقمص أحدٌ هذا الرداء إلا أرداه الله سبحانه، فطرده الله سبحانه وأمهله لا إلى يوم القيامة بل إلى يوم الوقت المعلوم، ويبدو أن أبليس ذاته لا يدري متى تنتهي مهلته، بل يطمع أن يكون من أهل الجنة قبل إنتهاء مدته حيث يسأل الله التوبة بحق الأنوار الخمسة الأطهار، ولكن ينسيه الله سبحانه ذلك قبل هلاكه –كما هو مضمون قول الإمام الصادق عليه السلام-.

وبيننا وبين إنتهاء فرصة إبليس، لا يزال إبليس متعهدا لغواية البشر وإظلالهم، ومن أساليبه أنه يتحرك بالقرب من الحق، فبجانب ولاية الله التي عاقبتها الحسنى هناك ولاية إبليس التي تزيّنت للناظر ولكن عاقبتها الدمار.

والله سبحانه بعد ذكره لحادثة طرد إبليس بشكل سريع يحّذرنا من إتباعه والإغترار به.

{ وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ }

الملائكة من نور وكانوا هم المخاطبين بالأمر الإلهي، ولكن إبليس الذي كان من الجن شمل بالخطاب لرفعه معهم، فأطاع الملائكة وعصى إبليس.

{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }

الفسق يعني تجاوز الحد، وإبليس تجاوز الحدود الإلهي بمخالفة الأمر الإلهي المباشر.

{أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُوني‏ وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ }

هذا هو إبليس وسيرته ، فهل يستأهل أن يتخذه الإنسان ولياً من دون الله سبحانه، والحال أن إبليس هو وذريته أعداء للبشر وقد أقسم بعزة الله على غوايتهم.

ولا يهمنا كيفية تكاثر وتوالد إبليس، ولكن يهمنا أنه ليس وحده بل له ذرية وكلٌ منهم يختص في إغواء البشر من زاويةٍ خاصة، فبعضهم موكّل بالصلاة وآخرين بالشباب وأخرين بغواية النساء وهكذا..

بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلاً (50)}

بئس البديل عن الله سبحانه هو إبليس، ولكن لماذا الحديث عن الظالمين؟

ذلك لأن الظلم صفة قبيحة وأغلب البشر مبتلي بهذه الصفة بنسبة أو بأخرى ، كيف؟

مقام الإنسان حين خلقه الله سبحانه مقامٌ سامي ومسؤوليته في المقابل مسؤولية عظمى، تلك المسؤولية التي رفضت السماوات والأرض والجبال أن يتقبلوها وتقبلها الإنسان، وبمقدار تقصيره في تلك المسؤولية والأمانة يكون ظالماً.

والإمام زين العابدين عليه السلام يبين في رسالته للحقوق خمسين حقاً واجباً على الإنسان أن يؤديها بدءاً من حقوق الله سبحانه وإنتهاء بحق نفسه، ومروراً بحق الأم والأب والزوجة والمعلم وغيرهم، وعدم تأدية تلك الحقوق تجعل الإنسان في خانة الظالمين.

والظالم يختار طريق إبليس بصورةٍ أو بأخرى، إلا أن ينجيه الله سبحانه وينقذه، ومن هنا علينا أن نحرص على عدم الظلم ولو قليلاً لكي لا نكون من اولياء إبليس، وإن كان منا من هو كذلك فليعزم على التوبة والعودة، لأن التقصير في حقوق الآخرين ظلمٌ وذنبٌ لا يغفره الله سبحانه، فقد قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله :” ذنب لا يغفر و ذنب لا يترك و ذنب يغفر فأمّا الّذي لا يغفر فالشّرك باللَّه و أمّا الّذي يغفر فذنب العبد بينه و بين اللَّه عزّ و جلّ و أمّا الّذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا” [2] حتى أفتى بعض فقهائنا بوجوب اداء حقوق الآخوان السبعين، ومع عدم أداءها يحاسب عليها يوم القيامة.

نسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا إنه غفور رحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] بحار الأنوار: ج 69، ص 329

[2] نهج الفصاحة : ص 494