
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس الخامس)
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزاً (8)أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)}
صدق الله العلي العظيم
تحوي هذه الآيات بصائر عدة وهامة ومؤثرة على حياة الإنسان ، نبيّن بعضها بإختصار من خلال سوق بعض التساؤلات، أولاها : ما هي الفلسفة الوجودية لخلقتنا في هذا العالم ؟ فهناك الكثير من النقاط المبهمة لنا في الحياة ، فنتسائل عن علة إستغناء الغني وإفتقار الفقير ، عن سبب نجاح الناجح و خسارة الخاسر ، عن موت هذا وحياة ذاك ، وتبقى هذه التساؤلات تدور في بال الإنسان لجهله بالإطار الكلي للأهداف السامية التي من أجلها خلقنا وبسببها جئنا إلى الحياة.
ولهذا السبب كثر تذكير القرآن الكريم والعترة الطاهرة بهذه النقطة ، وأكدوا على أن كل ما يجري في الحياة يجري في إطارٍ واحد وهدف واحد وهو الإبتلاء والفتنة.
ولكن لماذا الإبتلاء ولماذا الفتنة ؟
نؤجل الحديث عن ذلك قليلاً ، ولكن قبل ذلك لابد من الحديث عن وجودنا نحن البشر في هذا العالم ، وأساساً ماذا كنا وأين كنا ؟
يخطئ من يتصور أن سقوطه من بطن أمه أو وعيه على الدنيا هو ساعة وجوده الحقيقة ، بل الواقع أنا طوينا مراحل كثيرة حتى وصلنا إلى هذا العالم ، وبإنتظارنا مراحل طويلة وكثيرة بعد هذا العالم ، ومعرفة هذه الحقيقة مهمة جداً ، لكيلا يتصور الإنسان وجوده ملخصاً في هذه السنين.
وفي يوم القيامة حيث يحشر الناس يتصورون الدنيا كساعات بسيطة مرّت عليهم ، يوماً واحدٍ أو بعض يوم ، ولكن أغلب الناس في غفلةٍ عن هذه الحقيقة فيتشبثون في الدنيا بكل ما أوتو من قوة بينما يغفلون عن العوالم القادمة أو المراحل المنصرمة.
بين النور والنار
خلق الله سبحانه الجنة من النور وخلق جهنم من النار ، ثم أخذ ضغثاً من نور الجنة وضغثاً من نار جهنم ومزجهما ببعضهما البعض وخلق الدنيا من هذا المزيج – كما تدل على ذلك بعض النصوص- ، فالدنيا خليطٌ من النور والنار ، وهكذا البشر أيضاً ، وعلى الإنسان أن يتخلص من الجانب الناري ويخلص النورانية فيه ليصل إلى الجنة.
فالنار لا تدخل الجنة ، كما أن النور لا يعذب في النار ، وبغلبة أيٍ من الجانبين على الإنسان وطغيانه فيه يتعين مصيره الأبدي في العالم الآخر ، ومن الناس من تبقى شوائب نارية لديهم فيطهرها الله سبحانه في القبر أو في القيامة قبل الدخول في الجنة ، ولكن المؤمن يرغب أن يفتح عينه بعد الموت في وجه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
وفي هذه النقطة تكمن حكمة الإمتحان ، وبالتأمل في كلمة الإبتلاء والتدقيق في إشتقاقاتها اللغوية نجدها تفيد إظهار المخفي والمستور ، فقوله سبحانه : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِر}[1] تعني ظهور سرائر الناس ، وهكذا هي كلمة الإبتلاء تعني إظهار بواطن الناس و حقائقهم.
ونحن البشر – كما قال الإمام الصادق عليه السلام – : “النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ”[2] ، والمعدن لا يكون خالصاً إلا بعد تخليصه من شوائب التراب والأدران وتفتتن بالنار لتخلص ، وهكذا الإنسان لابد من أن يدخل في الفتن المتتالية لتظهر جوهرته ، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام :” وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطٍ الْقِدْرِ حَتَّى يَعْلُوا أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وَ أَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُم”[3].
فبمختلف الصور يبتلى الإنسان ، فيكون الدهر له يوماً وعليه يوماً وتقلّب أموره ويبتلى بأنواع الإبتلاءات لكي يظهر ما خفي منه ، وربّ قائلٍ بأني ملتزمٌ بالدين ومؤمن بالله ، فلا حاجة للإبتلاء ، فيقال له أن البلاء للولاء ، فأولى الناس بالبلاء – كما في الأحاديث – هم الأنبياء ومن ثم الأوصياء ومن بعدهم الأمثل فالأمثل من الناس ، بل كلما زيد في إيمان الرجل زيد في بلاءه.
ويدل هذا على أن طبيعة الدنيا هي البلاء والإمتحان ، فلو لم تكن هكذا لما أبتلى الله سبحانه أحب خلقه إليه بألوان الإبتلاءات ، وكان أبو عبد الله الحسين عليه السلام في مسيره إلى العراق يقول : ” مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ع أُهْدِيَ إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ”[4].
ولا يمكن لأحد أن يتوقع ماذا يكسب غداً أو ماذا سيجري عليه ، كما أنه لا يمكن أن يتوقع المرء لوناً من الإمتحان ، بل عليه أن يكون مستعداً لكل أنواعه متى أراد الله سبحانه لكيلا يفشل فيها – لا سمح الله-.
عظم إمكانيات البشر
البصيرة الأخرى المستفادة من هذه الآيات ، أن البشر ككتاب يحوي مئات الصفحات ، ولكن أغلب الناس لا يعرفون إلا جزءاً من أجزاء أنفسهم ، وصفحات كتابهم ، وبالتالي يستقلون شأنهم ومقامهم ، غافلين أن الله سبحانه خلقهم وأراد لهم مكانة سامية وأودعهم عظيم نعمه ، وفي نهاية المطاف يجازي المحسن بأعظم الجزاء ، والمسيء بأشد العقاب ، ولا يفعل ذلك مع سائر المخلوقات ، حتى أن الكافر يتمنى يوم القيامة أن يكون تراباً بعد أن يشاهد أخذ حق حيوانٍ من حيوانٍ آخر ، ثم يأمره أن يعود تراباً ، ولكن لا يكون ما يتمناه الكافر لأنه إنسانٌ مسؤول.
ويبدو لي أن من معاني قوله سبحانه : { وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا}[5] أن الإنسان أكثر مخلوقٍ فيه تعقيد وأعماق ، فالجدل والجدائل تعني خصال الشعر المتراكمة والمتداخلة ، وفيما ينسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام قوله : ” أتزعم انك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر” وليس العالم الكبير قد إنطوى في الإنسان بل العالم الأكبر.
ومن هنا فإن الإنسان مطالبٌ بأستخراج هذه الكنوز والتسامي في الكمالات المختلفة العلمية والعملية ، وهذا الأمر من معاني الإبتلاء أيضاً.
فالإبتلاء يعني من جهة تمييز الجيد من الرديء والحسن من الفاسد ، ومن جهة اخرى تنمية الجانب الإيجابي والتكامل ، فالله سبحانه خلق الخلق ولا يريد منهم شيئاً بل يريد أن يعطيهم ويرزقهم ، قال سبحانه : { وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون * ما أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُريدُ أَنْ يُطْعِمُون * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتين}[6] ، وفي الحديث القدسي : ” يا ابن آدم لم أخلقك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي “[7].
فعلينا أن نتقدم ونظهر ذلك العالم الأكبر المنطوي في داخل كل واحد منا ، يجب أن يكون يومنا أفضل من أمسنا وغدنا خيرٌ من يومنا والتكامل لا يقتصر على جانبٍ دون جانب .
ولو تركنا الجانب الفردي للإنسان إلى الجانب الحضاري له ، نجد التطور الهائل للبشرية كلما تقدم بهم الزمن ، فلو قارنت الإنسان البدائي مع الرجل الحضري لوجدت الفوارق الهائلة بينهما ، وهذا دليل القابلية الطبيعية للإنسان في التقدم المستمر لوجود رغبة التكامل في داخل البشر ، ومن هنا قال أبو عبد الله عليه السلام : ” مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ وَ مَنْ كَانَ آخِرُ يَوْمَيْهِ شَرَّهُمَا فَهُوَ مَلْعُونٌ وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الزِّيَادَةَ فِي نَفْسِهِ كَانَ إِلَى النُّقْصَانِ أَقْرَبَ وَ مَنْ كَانَ إِلَى النُّقْصَانِ أَقْرَبَ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْحَيَاةِ”[8].
ونستفيد هذا المعنى للإبتلاء من قول الله سبحانه : { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، فالمطلوب هو الوصول إلى أحسن الأعمال ، لا حسنها ، وحتى لا أكثرها ، وقال الإمام الصادق عليه السلام : ” فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ- لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قَالَ لَيْسَ يَعْنِي أَكْثَرَ عَمَلًا وَ لَكِنْ أَصْوَبَكُمْ عَمَلًا”[9].
قطبا الحال والمستقبل
لكي يمتحن العبد ، جعل الله سبحانه في الدنيا قطبين ، وهما قطبا الحاضر والمستقبل ، ويتصارعان دوماً في داخل كل شخص ويضغطان عليه حتى تتبلور شخصيته، وبين هذين القطبين دوماً تضاد ، فمن فضّل الحاضر خسر المستقبل ، ومن رمى ببصره إلى المستقبل ربحمهما ، وفي بعض النصوص إشارة إلى هذه الحقيقة بأن الرزق الحرام يتقدم الحلال فإذا بادر الإنسان إلى الحرام إكتسب إثماً ومنع من الحلال ، أما إذا صبر وترك الحرام حظي بالرزق الحلال.
وهكذا يدخل تزيين الدنيا في إطار الإبتلاء والإمتحان ، ولابد أن يفطن المرء هذه الحقيقة ، ويعي أن زينة الدنيا تنتهي ، فالشباب والمال والمنصب وغيرها من زخارف الدنيا كلها تنتهي وتنقضي . وبكلمة جامعة :
اولاً: نحن مخلوقون من مزيج من نار ونور.
وثانياً : وجودنا وخلقتنا بهدف الإبتلاء والإمتحان .
ثالثا: ومن أهداف الإبتلاء التكامل والتقدم .
ورابعاً: وسيلة الإبتلاء هي التضاد بين الحاضر والمستقبل.
{ إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزاً}
فالأرض هي الأساس ، والزينة مضافةٌ إليها بهدف الإمتحان ، ولا تدوم الزينة ،بل تعود الأرض إلى صعيد جرز وأرض قاحلة.
وبعد بيان هذه الحقيقة الهامة عن الدنيا وهدف الخلقة ، يحكي السياق القرآني قصة أصحاب الكهف ، ويبدأ القصة بتساؤل عنهم حيث يقول الله سبحانه : { َمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً } ، وفي هذا التساؤل إشارة إلى أن قصة أصحاب الكهف ليست قصة مضت في عمق التاريخ فحسب ،بل هي حقيقة جارية على كل إنسان ، حيث عليه أن يختار طريقه بين أن يكون مع أصحاب الكهف – حال عدم إمكان مواجهة الطغاة- أو الخضوع للطغاة والصيرورة معهم ، ولعل في تلاوة الرأس الشريف لهذه الآية فوق الرماح إشارة إلى كونه عليه السلام في خط الحق وأعداءه يجسدون الباطل والطغيان.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الطارق : الآية 9
[2] الكافي : 8 ، ص 177
[3] عيون الحكم والمواعظ : ص 507
[4] الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد : ج2، ص 132
[5] سورة الكهف : الآية 54
[6] سورة الذاريات : الآية 56-58
[7] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج20 ، ص 319
[8] الآمالي : ص 668
[9] الكافي : ج2 ،ص 16