Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السادس)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السادس)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)}

 صدق الله العلي العظيم

القصص القرآنية

بأروع الأساليب البلاغية يجمل القرآن الكريم قصة أصحاب الكهف في بضع آيات ثم يشرع ببيان تفاصيل القصة ، وطبيعة البشر التلهف لسماع تفاصيل ما علم به مجملاً كما أن هذا الأسلوب يزيد تأثير القصة في متلقيها ، كما لا يسرد القرآن الكريم مفصلاً من مفاصل الوقائع التاريخية إلا ومعها حكماً وعبراً ، وبتعبير آخر إلا وهي تنطوي على سنن إلهية هامة.

ومن خواص الأسلوب القرآني في ذكر القصص هي عدم ذكر التفاصيل غير الهامة وغير المفيدة عبرةً للمتلقي ، فلا يذكر مثلاً أسماء أصحاب الكهف أو ألوان ثيابهم أو أعمار كل واحدٍ منهم أو ما أشبه من التفاصيل التي تعرّض لها بعض المفسرين ، والتي وبالرغم من إعتماد بعضها على أدلةٍ وحجج إلا أن أغلبها تبقى بلا مستند معتمد ، بل لا ينبغي أن يتعرض قارئ القرآن لتلكم التفاصيل غير الهامة ، إذ يؤدي ذلك – أحياناً- إلى الإبتعاد عن الغاية من إيراد القصة ، بل عليه أن يوجه نظره تجاه ما ذكره القرآن الكريم .

القرآن الكريم بين التفسير والتدبر

للآيات القرآنية بعدان لابد أن يلتفت إليها من أراد المزيد من الإنتفاع من الآيات القرآينة ، الأول هو البعد التفسيري ، والثاني هو البعد التدبري ، ويعني البعد التفسير إماطة اللثام عن ظاهر اللفظ وتبيين مراده ، بينما التدبر يهتم بالبصائر والرسائل التي تحويها الآية الشريفة.

وفيما يرتبط بالبعد الثاني نذكر بعض البصائر قبل أن نبين البعد الأول لهذه الآيات الشريفة:

من سن الله في قصة أصحاب الكهف

حين قدّر الله سبحانه خلقة الكون قدّر له نظاماً أيضاً ، فلا شيء في هذا الكون الرحيب يسري بلا نظام ، وللنظم حكمتها أيضاً ، ويعبّر القرآن الكريم عن الأنظمة الحاكمة بالسنن ( سنة الله) وقد يعبّر عنها اليوم بالقوانين الطبيعية ( كقانون الجاذبية وقوانين الكيمياء والفيزياء) ، والسنة في اللغة تعني في أصل الإستعمال الطريق المعبّد الموصل إلى الماء ، وبمرور الزمن صار تعبيراً عن كل طريقٍ يوصل سالكه إلى الهدف المطلوب .

والتعبير بالسنة أدق من التعبير بالقانون ، لجهاتٍ عدة ، منها أن الله سبحانه هو الخالق لهذا الكون وللأنظمة فيه ، ولما كان هو الخالق لها فلا تكون حاكمةً عليه ، إذ لا حتم على الله سبحانه – كما توحي لفظة القانون- فالله سبحانه جعل سنة التزاوج سبباً للخلقة ، ولكنه خلق بشراً من غير أبٍ أو أم كآدم وحواء ، أو من غير أب كالنبي عيسى عليه السلام ، وكذا تحوّل الخشبة إلى ثعبانٍ عظيم أمرٌ يتعارض مع الأنظمة السائدة في الخليقة ، لكنه لما كان بإرادة الله سبحانه كان كما أراد.

فالسنن تحكمنا نحن ، ولا تحكم الله سبحانه وتعالى ، فإستجابة الدعاء والمعاجز و غيرها هي كسرٌ للسنن بإرادة إلهية.

ولكي يسير المرء وفق تلكم السنن ، زخرت الآية القرآنية ببيانها بصيغ وأساليب شتى ، ومنها الأسلوب القصصي ، حيث حوت القصص على السنن ، ومنها قصة أصحاب الكهف ، ومن الغريب أن الله سبحانه قبل بيان تلك القصة ينوه على عدم كون قصتهم عجيبة و نادرة ، بل هي تتحقق وتتكرر بتكرر مقوماتها الموضوعية ، كما تكررت في حادثة الإمام الحسين عليه السلام حيث كان يتلو الرأس الشريف هذه الآية من على الرمح ، وتتكرر أيضاً على مر التاريخ ، فماذا كانت السنة الإلهية التي تجلّت في قصة أصحاب الكهف؟

فتيةٌ ( لا بالعمر ) في مناصب حكومية عالية ، آمنوا بالنبي عيسى عليه السلام ، فقاموا لله سبحانه وقاوموا بطش دقيانوس ( أو دقليانوس) الذي كان أكبر إمبراطور للروم والذي قد إمتدت إمبراطوريته حتى الأردن ، وكان قد بدأ بقتل كل من آمن بالله والنبي عيسى عليه السلام.

سعت السلطات خلفهم فلم يكن لهم – بعد القيام – مهربٌ فلجأوا إلى الكهف ، الذي لم يكن بعيداً – كما يبدو – عن موطنهم، فأنامهم الله سبحانه لفترة زمنية.

في كل حركة تحررية هناك طليعة رائدة وهناك من يتبعهم من المتأثرين ، فكان أصحاب الكهف الطليعة ، وبخروجهم وإختفاءهم ، تحرّك أتباعهم وجاءوا على أثارهم ، فلما لم يعثروا عليهم أرّخوا يوم إختفاءهم وعدم العثور عليهم ، ومن حينذاك أعتمد ذلك اليوم كتاريخ للناس ، فصارت قصتهم مبدأ تاريخي ، ومن هنا كان لهم إسم آخر سوى أصحاب الكهف ، وهو أصحاب الرقيم ، في إشارة إلى الرقم التاريخي.

وبهذا التأريخ والترقيم خلد ذكرهم رغم مرور الآيات وتعاقب السنين ، حتى بعثهم الله سبحانه بعد قرونٍ ثلاثة منتصرين على الطاغية.

فإذا رأت مجموعة من المؤمنين أنفسهم في حرجٍ وضيق لما يلاقونه من السلطات الظالمة ، فليتأملوا في قصة أصحاب الكهف ، وأن سنن الله في نصرة المؤمنين التي جرت على أصحاب الكهف تتحقق معهم أيضاً، قصتهم لم تكن بدعاً من سنن الله ، ومن هنا قال الله سبحانه :

{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) }

أي هل ظننت أن قصة الذين لجأوا إلى الكهف ( أصحاب الرقيم) من آياتنا العجيبة ؟ كلا ؛ إذ هكذا كانت قصص الأنبياء من قبلهم أيضاً ، كما هكذا هي سيرة الرسل والمؤمنين من بعدهم ، ولعل هذه الجهة كانت وراء تلاوة الرأس لهذه الآية.

{إذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}

الفتوة هنا تعني فتوة الإيمان لا العمر ، ويقال للشاب فتى لقوته وغالباً الشاب يكون قوياً ، وهنا عبّر القرآن عنهم بالفتوى من جهة قوة إيمانهم ، عن سليمان بن جعفر النهدي قال قال لي جعفر بن محمد: “يا سليمان من الفتى؟”

قال: قلت له جعلت فداك الفتى عندنا الشاب.

قال لي: “أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولا، فسماهم الله فتية بإيمانهم، يا سليمان من آمن بالله و اتقى فهو الفتى.[1]

 

{ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) }

الفاء للتفريع ، أي بعد أن آوو إلى الكهف دعوا الله سبحانه ، وفي ذلك بصيرة هامة ، هي أن طريق الدعاء يكون عبر تهيئة المرء كل الإمكانات المادية والسعي الدؤوب نحو تحقيق الهدف ومن ثم يدعوا الله سبحانه ، كما فعل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، حيث حفر الخندق مع نفرٍ من المسلمين في شهر رمضانٍ صائف ، وهيأ عسكر المسلمين ، وحين جاء عمرو بن ود العامري مبارزاً أرسل إليه إبن عمه أمير المؤمنين عليه السلام ، حينذاك قال صلى الله عليه وآله : ” برز الايمان كله إلى الشرك كله إلهي إن شئت أن لا تعبد فلا تعبد”[2].

وهذا ما فعله أصحاب الكهف أيضاً ، خططوا للمواجهة ، ثم خرجوا إلى الكهف ، وألتجائهم إلى الكهف لجأٌ إلى الله سبحانه لأنه خلقه ، وحينئذ دعوا الله سبحانه.

ماذا سألوا الله سبحانه ؟

سألوه أن ينشر عليهم رحمةً من عنده ، أي رحمة مباشرة بلا توسط الوسائل المادية الأخرى ، لأنهم يأسوا منها جميعاً قبلئذ، والرحمة التي أرادوها أن يخلصهم الله سبحانه من جور الطغاة وأن لا يعثروا عليهم.

كما طلبوا منه سبحانه أيضاً أن يدلهم على طريق تحركهم ، بأن يكون أرشد الطرق للوصول إلى الهدف المنشود ، إذ هناك طرق عدة للوصول إلى الهدف – كما ذكرنا – ولكن بعضها أفضل من بعض ، وهكذا أكّدت آية أخرى في سورة الكهف على هذه البصيرة حيث قال الله سبحانه : { إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسيتَ وَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدا}[3]

{فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً }

إستجاب لهم الله سبحانه ، ولكن ليس بالنحو الذي توقعوا .. أوليسوا أرادوا رحمته ورشد أمرهم ؟ إستجابة الله سبحانه لهم كانت عبر الضرب على آذانهم وإنامتهم.

وهكذا ينبغي أن يعي المؤمن حكمة الرب سبحانه ، فليس ما يريده دوماً في مصلحته ، بل مصلحته فيما إختاره الله له ، وكما في الدعاء : ” فَإِنْ أَبْطَأَ عَنِّي عَتَبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ وَ لَعَلَّ الَّذِي أَبْطَأَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ”[4].

وكان في إنامتهم خيرهم وراحتهم وفوزهم ، فبعد أن أيقضهم الله سبحانه فرحوا بهلاك الطاغية وإنتشار دين الله ، وبعد أن أنامهم ثانيةً سيوقضهم مع ظهور صاحب العصر عجل الله فرجه ، ليفرحوا مرتين ، نسأل الله سبحانه أن يعجل في فرج إمامنا عليه السلام.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] كتاب التفسير ( للعياشي) : ج2 ،ص 323

[2] مواقف الشيعة : ج3 ،ص 123

[3] سورة الكهف :الآية 24

[4] تهذيب الأحكام : ج3 ، ص 89