Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السابع)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السابع)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13)}

 صدق الله العلي العظيم

ظاهرة النوم في الرؤية القرآنية

يتعرض القرآن الكريم للظواهر التي ترتبط بالإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولكن بيان الكثير منها يتم في سياق القصص ، ومن تلك الظواهر ظاهرة النوم ، فكيف ينام الإنسان؟

هناك نظريات عدة عن النوم وكيفية حدوثه عند البشر ، ولكن لم أجد – حسب تتبعي – من ربط النوم بالأذن ، بالرغم من صحة النظريات التي تذهب إلى وجود خلايا في الدماغ هي المسؤولة عن النوم ، ولكن تلك الخلايا هي الأخرى مرتبطة بعمل الأذن.

والأذن وما تحويه من أعضاء ، تشكل عالماً معقداً من الأجهزة والوظائف الحياتية للإنسان – مضافاً إلى وظيفة إلتقاط الأمواج الصوتية – فهي مسؤولة عن توازن الجسم ، وهي مسؤولة عن حرارته أيضاً ، كما أنها ترتبط بالدماغ من جهة وبالمعدة من جهة ثانية ، وبمجمل الجهاز العصبي من جهة ثالثة ، كما أن مبدأ النوم يكون بها ، ومن هذه الجهة جعلت الروايات نوم الأذن – دون العين- معياراً لتحقق النوم ، إذ قد تثقل العين وتخفق ولكن تسمع الأذن فلا يحكم على الإنسان بالنوم ، بل ينام حين تنام عينه.

وفي هذه الآية من سورة الكهف ، يربط الله سبحانه نومهم بآذانهم حيث يقول: { فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} لا بوجود أدوية منوّمة أو غازات بعثتهم على النوم – كما قد يتصوّر- ، وذلك لأن النوم تم فجأةً لا تدريجياً وللجميع.

والضرب هي الحركة الشديدة والصعبة ، فالضرب على آذانهم قد يكون بضرب ستارٍ على آذانهم أو موجةٍ عبر آذانهم سرت إلى كل بدنهم.

إحاطة الآخرة بالدنيا

ولا بأس بالإشارة هنا إلى أن الدنيا محاطةٌ بالعالم الآخر، إذ ليست الآخرة بعيدةً عن الدنيا بل مهيمنة عليها ، كما أن حساب الزمان يختلف هناك عن الدنيا ، فكل يوم فيها كألف سنةٍ مما نعد ، وربما يمكن أن يقال أن إنامة الله لأصحاب الكهف كان عبر نقلهم إلى العالم الآخر وإنامتهم سويعات من ساعات الآخرة وإعادتهم إلى الدنيا بعد ثلاثمائة سنة شمسية وبإضافة تسع سنوات تكون قمرية.

ومثال هذا القول ، ما صنعه الله سبحانه مع طعام النبي عزير الذي أماته الله مائة عام ، فبعثه وأمره أن ينظر إلى طعامه لم يتسنه أي لم يفسد ، وكان طعامه شيئاً من اللبن والتين ( وكلاهما مما يسرع إليهما الفساد) ، بينما كان حماره قد تحول إلى عظامٍ نخرة.

فكيف بقي الطعام مائة عام سالماً دون أن يطرو عليه الفساد ؟ إنما كان ذلك بنقله إلى عالم الآخرة ومن ثم إعادته إلى الدنيا.

{ فِي الْكَهْفِ سِنينَ عَدَداً}

وكيف كان فقد ضرب الله سبحانه على آذان هؤلاء النفر في كهفهم الذي هربوا إليه ، وكان ذلك لسنين ، ويقال سنة للسنة الشاقة والصعبة ، بينما إذا كانت يسيرة فيقال عام ، فقال تعالى عن سنوات دعوة نوح : { وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُون‏}[1] ، فكانت تسعمائة وخمسين سنة صعبة ، ولكن حين يحدثنا في سورة يوسف بعد سنواتٍ عجاف عن عامٍ تهطل الأمطار حيث قال الله سبحانه : { ثُمَّ يَأْتي‏ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فيهِ يَعْصِرُون‏}[2].

وسنين أصحاب الكهف كانت متسمة بالصعوبة ، لتسلط الطغاة والجبابرة على الناس ، ولكن لماذا تمييز السنين أو إبدالها بلفظ ( عددا) ؟

ذلك للدلالة على أن السنين كانت مقدّرة منذ البدء ، فهي معدودة ومحددة ومعينة.

البعث بعد النوم

{ثُمَّ بَعَثْناهُمْ }

بعد إنقضاء تلك الفترة المعدودة ، بعثهم الله سبحانه ، والبعث لا يعني إيقاظهم بل إنبعاثهم من نومتهم وإنطلاقتهم بحركة فجائية ، لا تدريجية ، كما يكون ذلك مع بعث الناس يوم القيامة حيث يكون فجأة لا تدريجاً.

الغاية من والبعث

ما هي الغاية من بعثهم بعد إنامتهم سنينا ًطويلة؟

{ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) }

كثرت البحوث التفسيرية حول هذا المقطع من الآية ، وقبل أن نتحدث قليلاً عن الغاية من بعثهم كما بينت الآية نذكّر بما ذكرناه سابقاً من أن إمتحان الإنسان يكمن في إختياره لأحد قطبي الحاضر والمستقبل ، ومن صفات أمير المؤمنين عليه السلام التي بينها أحد أصحابه الأوفياء ( ضرار بن ضمرة الكندي) أمام معاوية بن أبي سفيان حيث قال ضرار: ” كَانَ وَ اللَّهِ بَعِيدَ الْمَدَى شَدِيدَ الْقُوَى”[3] ، في إشارة إلى بعد نظر أمير المؤمنين وتفضيله الآخرة على الدنيا بعكس معاوية.

فالمؤمن ينظر إلى المستقبل البعيد ، بينما ينظر الكافر إلى يومه وساعته ، وبذلك يحدث تنازع حزبي الإيمان والكفر ، ويكون التحدي ، وليس في المقام أكثر من حزبين ، حزبٌ يمثل جبهة الإيمان ، وحزب يمثل الكفر ، فالكفر ملةٌ واحدة والإيمان حزبٌ واحد ، فمهما تغيرت العناوين والمسميات يبقى جوهر الصراع بين الكفر والإيمان.

وفي قصة أصحاب الكهف كان الأمر كذلك ، فمن جهة كان دقليانوس الطاغية الذي قتّل المؤمنين بالنبي عيسى ومنع دين الله من الإنتشار ، ومن جهة فئة من المؤمنين بالله ، وكانت العاقبة أن دقليانوس ولّى بعد أن أنام الله هؤلاء النفر ، ثم بعثهم ليعرفوا المنتصر في نهاية المطاف ، حيث أسلم الناس لله سبحانه وحكم المسلمون وسيطروا على العالم.

فالهدف من البعث هو تحقق علم الله سبحانه وأن يعلم الملائكة والناس أجمعين من هو المنتصر ولمن يكون الزمان ، والزمان تعبيرٌ عن الحوادث الواقعة فيه وليس هو مهماً بقدر ما للحوادث فيه من أهمية ، وقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله : ” لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْر”[4]، يشير إلى كون الزمان حقيقة واحدة وثابتة ، وحسنه وسوءه راجع إلى الحوادث فيه.

الإنباء بقصتهم بالحق

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ }

لا حاجة إلى الأخذ من التوارة والإنجيل والأساطير المنتشرة بين الناس عن قصة أصحاب الكهف ، والتي إنشرت كثيراً بسبب قرب زمان قصتهم من العرب في الجزيرة العربية ، بل الله سبحانه هو الذي يقص خبرهم وقصصهم بالحق ، فماذا يعني بالحق؟

معايير لحقانية الفكرة

كل حديثٍ أو كتاب أو منهج ثقافي ينبغي أن يحتوي على معيارين ليكون جيداً ، وبالتالي يكون حقاً:

الأول: لكي يكون حقاً لابد أن يكون واقعياً ، فلا عبرة بالخرافات والكتب الخيالية ، لأنها أمور غير واقعية ، والحق يبقى حقاً الباطل كذلك ، ولا يأخذ أحدهما مكان الآخر.

وبهذه المناسبة نذكّر أن الأفلام والمسلسلات التي تصنع لعرض الحوادث التاريخية تضيف بعض التفاصيل والجوانب بما يخدم الجوانب الفنية المبتغاة ، فهي وبالرغم من أهميتها إلا أنها لا تصلح أن تكون بديلاً عن القرآن الكريم ، لأن القرآن يبين محض الواقع.

الثاني: لابد أن تكون الفكرة أو المنهج مفيداً ، وبتعبير آخر لابد أن يخدم هدفا ًسامياً ، وإذا كان الهدف صحيحاً يتحول إخفاء بعض الأمور مسوّغاً ، كما الكذب في الإصلاح ، فلأن المصلح يهدف هدفاً نبيلاً فإن كذبه في هذا السبيل عند الله صدق ، وكما في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام : ” وَ لَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام- إِنِّي سَقِيمٌ وَ مَا كَانَ سَقِيماً وَ مَا كَذَبَ وَ لَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وَ مَا فَعَلَهُ وَ مَا كَذَبَ وَ لَقَدْ قَالَ يُوسُفُ عليه السلام- أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وَ اللَّهِ مَا كَانُوا سَارِقِينَ وَ مَا كَذَبَ”[5] ، وذلك لأنهم كانوا مصلحين.

وبالعكس فإن الصدق في الإفساد يعد ذنباً كبيراً كما في إشاعة الفاحشة أو النميمة بين الإخوان او غير ذلك.

فالله سبحانه يقص قصة أصحاب الكهف بالحق ، لأنها واقعية أولاً ، ولأنها تهدف إصلاح مسيرة الإنسان.

مراحل الهداية

{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13)}

للهداية مراحلٌ ثلاث:

الأولى: توفير الله سبحانه الفرصة للوصول إلى الهدى للجميع وبالتساوي ، فالقرآن لكل الناس والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله بعث للأبيض والأسود وكذا الأئمة عليهم السلام.

الثانية: هي مرحلة الإستجابة للفرصة المتاحة ، وقليل من الناس يغتنم هذه الفرصة ، وعنهم يقول الله سبحانه: { رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادي لِلْإيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرار}[6].

الثالثة : بعد الإستجابة وتوفر الهداية ، يزيد الله سبحانه مراتب الهداية للمؤمن.

وأصحاب الكهف بدأوا بالخطوة الأولى والأساس وهي خطوة التخلص من أدران الكفر والفسق والعزم على الإيمان بالله سبحانه ، فزادهم الله إيماناً وهدى وأخذ بيدهم في سائر مسيرتهم.

نسأل الله سبحانه أن يزيدنا هدىً في هذا الشهر الكريم. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  سورة العنكبوت : الآية 14

[2] سورة يوسف : الآية 49

[3] كنز الفوائد :ج2 ، ص 160

[4] المجازات النبوية : ص 222

[5] الكافي : ج 8 ، ص 100

[6] سورة آل عمران : الآية 193