
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس الاول)
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَديداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنينَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثينَ فيهِ أَبَداً (3)}
صدق الله العلي العظيم
سورة الكهف ؛ الإسم والإطار العام
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الحمد التام والشكر الدائم لله سبحانه الرحمن الذي وفقنا مرةً أخرى للإجتماع حول مائدة القرآن الكريم، فبعد أكثر من خمس وعشرين سنة لهذا المجلس القرآني المبارك الذي قام ولا يزال بتوفيق الله سبحانه ورعاية الرسول الأعظم وأهل بيته عليه وعليهم السلام، نجدنا نعيش نعمةً عظيمة بهذا التوفيق ونسأله سبحانه أن يديم علينا ذلك، ولابد لنا أيضاً أن نذكر اولئك الذين حضروا معنا وشاركونا طيلة سنين ولكنهم الآن رهن التراب، فنذكرهم ونبعث لهم بثواب مجالسنا هذه.
نسأل الله سبحانه أن يبعث بثواب مجالسنا هذه إلى أرواحهم وأن يرحمنا ويكتبنا من المرحومين.
بحوثٌ تمهيدية
وقبل أن نشرع في الحديث عن آيات سورة الكهف المباركة لابد أن نذكر ونذكّر ببعض الأمور:
الأمر الأول: الإنسان ومجالس الذكر
كيف نتعامل مع مثل هذه المجالس والمحافل؟ خصوصاً إذا علمنا أن الساعات التي أأخذها – كمتحدث – منكم سأُسأل عنها يوم القيامة، كما أنكم ستُسألون أيضاً عن صرفكم لأوقاتكم فيها، وقد قال الله سبحانه: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ولَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلين}[1].
فإن لم تكن هذه المجالس أفضل الخيارات المتاحة فلابد من القيام بالأفضل، وإن كانت هي الفضلى فلابد من الإنتفاع بها خير إنتفاع.
وأنا أدعو الأخوة الحاضرين، بالاخص الطلاب الجامعيين والحوزويين، الى استغلال أجهزتهم الحديثة والإستفادة منها في مجالس العلم، وذلك من خلال التسجيل الصوتي لكي يتاح لهم إستماع البحث مجدداً وكتابة ما ينفعهم – أو يجدونه الأنفع – ليقوموا بنشره بعدئذ للآخرين، وذلك لأن الجميع مسؤولٌ أمام الهجمات الثقافية الهائلة التي يقوم بها الأعداء، وعلى كلّ مؤمن أن يتصدى لها ببث الهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله: “نَضَّرَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى غَيْرِ فَقِيهٍ، ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ”[2].
الأمر الثاني: الإطار العام للسور القرآنية
لكل سورة من السور القرآنية إطارٌ عام يرسم الهدف الخاص من السورة، بالرغم من إشتراكها مع سائر السور في الأهداف العامة، وبوعي الإطار العام والهدف الخاص للسورة والبحث عن المباحث المحورية للسورة نستفيد من السورة وآياتها أكثر، مضافاً إلى الإستفادة من إسم السورة لفهم الإطار العام، إذ نعتقد أن أسماء أغلب السور توقيفية أوحى بها الله سبحانه لنبيه.
نعم، هذا الأمر قد لا يتيسَّر لكل قارئ للقرآن، بل وحتى لا يلاحظها أغلب المفسِّرين، فتجدهم في تفسيرهم للسور القرآنية يذكرون الأهداف العامة والعناوين الكلية كالتوحيد والنبوة والمعاد وما أشبه، والسبب في ذلك ربما يعود إلى أنَّ القرآن الكريم كتابٌ فيه آيات متشابهات، إذ تجد القصة الواحدة تُذكر في أكثر من سورة، والحديث ذاته يتكرر في أكثر من موضع، ولكن بالرغم من ذلك تبقى هناك بحوث خاصة لابد من ملاحظتها في كل سورة.
القرآن الكريم كتاب العقيدة
الأساس في رؤيتنا ينبغي أن يكون في الرؤية العامة والكلية للحقائق، ومَنْ ضَعَفَ في الجوانب العامة فشل في تشخيص الحقائق في الجوانب الخاصة، أ رأيت الذي يخطئ طريق المدينة هل ينفعه بعدئذ العلم بشوارعها الفرعية؟
والعقائد هي تلك النظرة العامة، ومن هنا كان من الضروري تصحيح العقائد وترسيخها، ومع عدم ذلك فلا فائدة من حياتنا كلها، والهجمات الثقافية التي تعصف بأمتنا، نجدها اليوم تركز على جذر الثقافة أي العقيدة، فهناك من البلدان الإسلامية ما تأثر شبابها بهذه الهجمات حتى شكلوا تيارات إلحادية ينشرون كتبهم وعقائدهم الباطلة، ولو تساهلنا في البناء العقدي فلا فائدة حينئذ بتقوية أعمدة الثقافة والفكر الإسلامي، لأن البناء العالي على الأساس الرخو مهددٌ بالسقوط في كل لحظة.
والقرآن الكريم كتاب العقيدة الحقة، ولكن ليس على النحو المعهود في الكتب المتسلسلة، التي تأتي ببحوث التوحيد ومن ثم ببحوث النبوة والإمامة والبعث، بل الحديث العقائدي في القرآن الكريم يرتبط بكل أبعاد حياة الإنسان، فليس الحديث عن العقيدة في القرآن حديثٌ نظري، بل يرتبط بسلوكه الفردي والإجتماعي، بسلوكه في الجوانب العبادية والسياسية والإقتصادية.
وهذا هو منهج القرآن الكريم في سائر المباحث أيضاً، فالحديث عن الصلاة في القرآن الكريم يرتبط بالحديث عن ذكر الله، وهو حديث مرتبطٌ بالخشوع أيضاً، كما هو حديث عن تجنب الفحشاء والمنكر.
الأمر الثالث: إسم السورة
إسم السورة المبحوثة هو (الكهف) وكما ذكرنا أن لإسم السورة علاقةٌ بمحتواها، بل إن أسماء السور يرتبط أيضاً بحياة البشر، وعلى سبيل المثال فسورة البقرة تعد رمزاً للناحية الإقتصادية للمجتمعات البشرية، وليومنا هذا فإن الثروة الحيوانية تشكل جانباً هاماً من إقتصاد الدول، وبعد سورة البقرة تأتي سورة آل عمران التي تتحدث عن القيادة الربانية، وبطبيعة الحال فإن توفير المعيشة الجيدة مقدمة للأمر بإتباع القيادة الربانية، وكما لا تقوم حياة البشر بلا إقتصاد، كذلك لا تستمر بلا قيادة.
وبعد وجود القيادة لابد من بناء المجتمع الإيماني، ومحور المجتمع هي الأسرة، وذلك ما تتحدث عنه سورة النساء، وبعدها تأتي سورة المائدة التي تهدف بناء الحضارة، وهكذا هي السور القرآنية الأخرى تعالج قضايا الإنسان.
ولكن فهم ذلك بحاجة إلى التدبر العميق والتأمل الكثير، ومع ذلك لا يمكن الإعتماد على العقل بعيداً عن نصوص أهل البيت عليهم السلام.
وفي سورة (الكهف) المباركة بحوثٌ ثلاثة لم ترد في غيرها من السور القرآنية، وهي الحديث عن أصحاب الكهف، وقصة النبي موسى عليه السلام والعالِم، وكذلك قصة ذي القرنين.
ولكن ما هو الرابط بين هذه المباحث أو القصص الثلاث؟
الكهف هو الشق الصغير الحادث في الجبل وإن كان كبيراً سمي شِعباً، وعاش الإنسان البدائي في الكهوف للحفاظ على أمنه أولاً، وسلامته من الآفات الطبيعية كالحر والبرد ثانياً.
فلكي يحصل الإنسان على هذين النعمتين (الأمن والصحة) لجأ إلى الجبال في كهوفها وشعابها، فهو بحاجة دوماً إلى ملجأ يلجأ إليه سواء كان كهفاً أو بيتاً أو نفقاً تحت الأرض، ولكنه بالتالي يفتقر إلى ما يحميه أمام الأعداء أو الحوادث الطبيعية.
أنواع الملاجئ
وبالتدقيق نجد الملاجئ ثلاثة أنواع:
الأول: الملجأ أمام الطغاة، حيث يلتجئ المؤمنون إلى الله سبحانه أولاً، ومن ثم يهيئوا الأسباب المادية للحماية، فأصحاب الكهف آمنوا بنبي الله، وحين لم يقدروا على مواجهة الطاغية دقيانوس لجأوا إلى الله وطلبوا منه أن يحميهم من بطشه، فاستمسكوا بالعروة الوثقى كما قال الله سبحانه: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها)[3]، وقال الله سبحانه عنهم حين التجأوا به: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدا)[4]، وبذلك نعرف أن الإلتجاء إلى الله سبحانه بحاجة إلى التحرك، كالهجرة والتقية وتوفير الأسباب المادية (الكهف).
الثاني: العلم، فهو ملجأ من الأخطار، وقد أمر الله سبحانه نبيه موسى عليه لسلام بالذهاب إلى العالِم والتعلم منه، فالعلم بأنواعه النافعة يكون ملجأً للإنسان وقوة له.
الثالث: الدولة العادلة التي يذكرها الله سبحانه في سياق الحديث عن قصة ذي القرنين.
فالعلاقة بين القصص الثلاث في هذه السورة يتلخص في إسم (الكهف) الذي يُلجأ إليه في الملمات.
ملجأ المؤمنين
وفي هذا المجال لابد من التذكير بأن الملجأ ليس فقط هو ذلك الذي يحفظ أمن الإنسان في الحياة، بل الأهم أن يجد الإنسان الملجأ لآخرته ودنياه، وملجأ المؤمن في الملمات والمهمات، ملجأه في الدنيا والآخرة هم النبي وأهل بيته عليه وعليهم السلام، الذين جعل الله سبحانه ولايتهم حصناً من العذاب، ومحبتهم كهفاً من الأخطار، ففي الصلوات الشعبانية: ” اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدِ: الْكَهْفِ الْحَصِينِ، وغِيَاثِ الْمُضْطَرِّ الْمُسْتَكِينِ، ومَلْجَإِ الْهَارِبِينَ، وعِصْمَةِ الْمُعْتَصِمِينَ”[5].
وقال الإمام الرضا عليه السلام في حديث سلسلة الذهب: “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي” ثم قال عليه السلام: “بِشُرُوطِهَا وأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا”[6].
وفي حديثٍ آخر عنه عليه السلام أيضاً: “وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ نَارِي”[7].
ومن هنا علينا أن لا نقصِّر في الإرتباط بأهل البيت عليهم السلام وتقوية العلاقة بهم، فإن لم نرسِّخ علاقتنا معهم في الدنيا فلربما زلّت أقدامنا يوم القيامة لا سمح الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الأعراف: الآية 6
[2] الأصول الستة عشر: ص 363
[3] سورة البقرة: الآية 256
[4] سورة الكهف: الآية 10
[5] مصباح المتهجد: ص 828
[6] الآمالي ( للصدوق ): ص 235
[7] المصدر.