Search Website

تدبرات في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس الخامس والعشرون)

تدبرات في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس الخامس والعشرون)

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَ تِلْكَ الْقُرى‏ أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61)فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63)قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى‏ آثارِهِما قَصَصاً (64)}

صدق الله العلي العظيم

قبل الخوض في التدبر في هذه الآيات المباركات لابد من بيان مقدمة:

وهي أن البشر سيد خلق الله سبحانه وجعل الله له كل شيء في هذا الوجود، ولكي يسخر الطبيعة من حوله لابد أن يمتلك قوة التسخير والإستفادة، بل قيمة الإنسان هي في هذه القدرة، فقيمة الطيّار في تسخيره للطائرة وتحريكه لها، وقيمة السائق في تحكمه في السيارة.

فالرب سبحانه أراد للإنسان أن يكون متحكماً في الطبيعة لا محكموما لها، ومن لم يقدر على التحكم في نفسه وشهواته والهيمنة عليها فإنه لا يصلح للتحكم فيما حوله، وليست له أهلية للقيادة والهيمنة، ومن هذه الجهة نجد أن آيات الكتاب وروايات العترة ومجمل تعاليم الإسلام تهدف بناء الإنسان القوي والمسيطر على ذاته وصاحب الإستقامة تجاه ضغوط الحياة، وهذا ما نجده واضحاً في آيات سورة الكهف التي يهدف سياقها العام بناء الإنسان القوي.

وقلنا أن الإنسان يكتسب القوة بإلتجاءه إلى الله سبحانه وذلك من خلال الإلتجاء إلى السبل التي جعلها الرب تعالى وهي:

أولاً: الإلتجاء إلى الطبيعة والإستعانة بالوضع الجغرافي، كما فعل أصحاب الكهف في إلتجاءهم بالكهف، وكما يأمر الشرع المؤمنين بالهجرة من بلدانهم إلى بلدان أخرى إن عجزوا عن إقامة شعائر دينهم ولم يتمكنوا من إعمال التقية.

ثانياً: التسلح بسلاح العلم، لأن العالم متقدمٌ على الجاهل بأشواط، سواءاً كان عالماً بالدين والاخلاق والمعارف الدينية –وهو الأساس- أو عالماً بسائر العلوم أيضاً، كما في قصة النبي موسى عليه السلام والعالم.

ثالثاً: اللجأ بالسلطان العادل ونظام الحق والقسط، كما في قصة ذي القرنين التي ستأتي لاحقاً.

وحسب السياق بقيت آية ترتبط بالموضوع السابق لم نوضح معانيها هي قوله سبحانه:

{وَ تِلْكَ الْقُرى‏ أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا }

القرية – في الأدب القرآني- هي كل تجمعٍ بشري لم يؤمن بالله ورسله، ولا فرق بعدئذ في حجم هذا المجتمع وإن كان مدينة كبيرة.

فالرب أهلك أهل القرى بظلمهم وسلوكهم المنحرف، ولكن لم يعذبهم بمجرد فعلهم المعاصي بل:

{وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)}

فلم يؤاخذهم الرب سبحانه سريعاً، بل أمهلهم ليتوبوا من ذنوبهم ويرجعوا إلى الجادة.

سلاح العلم

العلم قدرة قوة كبيرة ،والعالم أعلى من غيره: {  يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبير}[1]، لأن العلم يمكّن الإنسان من النجاة من المشاكل والمتاعب.

ينقل أن سلطاناً زوّج إبنته لعبده فأبِق عبده، وتورّط السلطان بأمر تزويج إبنته الباقية بذمة العبد الآبق، فقام بزيارة أحد علماء المدينة راجياً منه إيجاد مشكلة لمعضلته، ولكن العالم إشترط عليه تمشية ألامور المالية لحوزة المدينة لمدة شهر، فقبل السلطان الشرط.

قال له العالم: حل معضلتك في أن تهب العبد لإبنتك ، وبهبتك إياه لها يبطل النكاح ويمكنك حينئذ تزويجها ممن تشاء.

فالعلم قوة وسلاح لعلاج المشاكل وللتقدم، وما نجده من الآيات والروايات المؤكدة على العلم والمبينة لمقام العلماء لم يأت إعتباطاً، بل جاء ليكون المسلم متقدماً في هذا الحقل وبتبعه يتقدم في سائر مجالات الحياة.

وبالفعل كان المسلمون متقدمين على أهل العالم بكثير حين إهتموا بالعلم وقبل أن يقوموا بتفسيرات خاطئة للنصوص الشريفة ليبرروا تقاعسهم وتكاسلهم.

ولو إهتم شبابنا اليوم بالعلم – بمختلف مجالاته- بدل الإهتمام بتوافه الأمور لتقدمت أمتنا وتحصنت من ضغوط الدول المستكبرة وهجماتهم المختلفة، وكفى بهذا دافعاً يحمل الشاب المسلم على الإهتمام بهذا المجال.

النبي موسى عليه السلام والعالم

أمر الله سبحانه نبيه موسى عليه السلام بإتباع عالمٍ من العلماء، فما هي الحكمة في ذلك ؟ أولم يقدر ربنا على إعطاء العلوم جميعاً للنبي؟

يبدو أن الحكمة في الأمر هي رسم الطريق للناس في مجال طلب العلم، كما فعل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بإرسال صحابيين إلى اليمن ليتعلموا كيفية صناعة السلاح الحديث، بينما كان النبي عالماً بهذا السلاح وكيفية صنعه، ولكنه أرسلهم ليريهم الطريق المتبع لإكتساب العلم.

فلابد إذاً من طلب العلم وإن كان في مناطق بعيدة وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام:”  اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَ لَوْ بِالصِّين”[2].

إنطلق النبي موسى عليه السلام في مسيرته وبصحبته فتاه الذي يبدو أنه يوشع بن نون عليه السلام، ليلتقي بالعالم سواء كان هو الخضر او غيره، ومعهم طعامهم الذي كان عبارة عن سمكة كبيرة ( حوت) ، والتي كانت في الوقت ذاته وسيلة للوصول إلى العالم حيث أمره الله بأن يلتقي بالعالم حيث تحيى السمكة في الماء.

ويبدو أن هذه العلامة هي من طبيعة اللقاءات السرية للثوار والمصلحين، حيث لا يحددون مكاناً وزماناً محددين، بل ينوهون لذلك تنويهاً.

{وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}

كلمة ( إذ ) تفيد معنى ذلك الوقت أي إذكر أو أقرأ قصة موسى حيث قال..

والفتى هو المرافق للإنسان والذي يقوم بخدمته كما أنه يتربى على يد من يرافقه، فهي للخدمة والتربية، والتربية بالفعل والسلوك، كما كان أمير المؤمنين عليه السلام يأخذ معه بعض أصحابه في تحركاته وسفراته، ككميل بن زياد وميثم التمار ونوف وغيرهم.

أعلن النبي موسى عليه السلام عزمه على لقاء العالم مهما بعدت المسافة إلى مجمع البحرين حيث يلتقي بحران، فحين يعزم الإنسان الوصول إلى مكانٍ ما فلابد أن يأخذ بعين الإعتبار السعي الذي سيبذله في هذا السبيل.

واختلفوا في موضع مجمع البحرين إلى ثلاثة آراء:

الأول: مجمع البحر الأبيض والمحيط الأطلسي عند جبل طارق.

الثاني: محل إلتقاء البحر الأحمر بخليج عدن عند باب المندب في اليمن.

الثالث: شمال البحر الأحمر الذي ينقسم إلى قسمي خليج العقبة وخليج السويس.

والأقرب هو القول الثالث لبعد المكانين الأولين من الناحية الجغرافية.

{ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)}

قيل عن الحقبة أنها مائة عام، وقيل أنها سبعون عاماً، ولكن الذي يبدو أن المراد من الحقبة هنا هي مدة من الزمن، وفي هذا الأمر درسٌ في عدم تراجع الإنسان عن أهدافه بسهولة.

{فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما }

حين وصلا إلى مجمع البحرين نسيا حوتهما الذي هو السمكة أو السمكة الكبيرة، ولكن لماذا هنا نسبة النسيان إلى كليهما، بينما في الآية الثالثة والستين نسبة النسيان إلى الفتى فقط؟

يبدو أن النسيان كان من الفتى، ولكن نسب إلى النبي أيضاً لإعتماده على الفتى وعدم سؤاله عنه حين التحرك، فالمسؤول والقائد عليه أن لا يوكل الأمور إلى الغير تماماً فينساه، دونما متابعة.

نسيان الأنبياء

وهل ينسى الأنبياء؟

لا ينسى الأنبياء في ما يرتبط بمسائل الدين والرسالة، ولكن ربما ينسيهم الرب سبحانه فيما يرتبط بالأمور الدنيوية.

{فَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61)}

قيل أن مجمع البحرين كان فيه ماء الحياة، لذلك حييت السمكة وراحت تغوص في البحر، ولكن يبعد أن يكون ذلك الماء ماء الحياة، بل ربما كان في السمكة شيء من الحياة – لبطئ موت بعض أنواعها خارج الماء- فلما وصلها الموج اتخذت سبيلها في البحر.

والسرب هو أسفل الماء وعمقه، والسارب هو الذي يسير إلى الأسفل.

{فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا }

تجاوزا موضع الميعاد، وربما وصلا إلى الشاطئ الآخر ، قال النبي لفتاه أن يحضر غدائهم، الذي كان عبارة عن تلك السمكة.

والغداء طعام الغدوة، وهي وجبة تختلف عن الفطور التي تأكل على الريق، بدليل أنهم كانوا قد تحركوا منذ الصباح فوصلا إلى الموضع في أول النهار.

{لَقَدْ لَقينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)}

كان سفرهما صعباً وشديداً، الأمر الذي أتعبهم وأنصبهم.

{قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ }

طلب الفتى من النبي عليه السلام أن يعودوا إلى حيث  توقفوا للإستراحة ، لأنه نسي الحوت وأنساه الشيطان أن يذكر للنبي عليه السلام أنها دخلت الماء.

وَ اتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63)}

حيث اتخذت السمكة سبيلها في البحر بشكلٍ عجيب.

{قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى‏ آثارِهِما قَصَصاً (64)}

قال له النبي عليه السلام أن ذلك الموضع هو المكان المنشود، وهناك حيث كنا نريد اللقاء بالعالم.

ولذلك عادا في الطريق ذاته الذي سلكوه ووصلوا إلى مرادهم، وعودهم هذه المسافة كان شاهداً على جدية النبي موسى عليه السلام في تحركه للوصول إلى العالم.

النبي موسى عليه السلام أراد الوصول إلى العالم، ونحن أيضاً نبتغ الوصول إلى إمام زماننا، فلابد أن نكون جادين في الأمر بالدعاء للإمام والمناجة والإستمرار في زيارته والتوسل إليه.

أما أن يكون همنا هماً آخر وبجانبه نريد اللقاء بالإمام عليه السلام والتشرف برؤيته فلا يكون ذلك، كما أراد أحد العلماء اللقاء بالإمام وطلب ممن كان يلتقي بالإمام أن يصحبه معه علّه يتشرف برؤية الإمام عليه السلام، وبعد تكرار الزيارات إلى مسجد السهلة، وفي إحدى الليالي أراد العالم أن ينام قليلاً لشدة تعبه، فنهاه صاحبه عن ذلك لإحتمال مجيء الإمام، وبعد أخذٍ وعطاء، إتفقا على أن ينام الرجل وإذا جاء الإمام يوقظه صاحبه.

والذي حصل هو مجيء الإمام عليه السلام والتقاء ذلك الولي به ولما أراد الولي أن يوقظ صاحبه، نهاه الإمام عن ذلك.

نسأل الله سبحانه أن يعجل في فرج إمامنا عليه السلام.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]سورة المجادلة : الآية 11

[2]مصباح الشريعة : ص 13