Search Website

تدبرات في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السادس والعشرون)

تدبرات في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السادس والعشرون)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى‏ آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)قالَ لَهُ مُوسى‏ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى‏ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى‏ ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)}

صدق الله العلي العظيم

تحوي هذه المجموعة من الآيات مطالب قيّمة عن العلم والتعلم وكيفية العلاقة بين العالم والمتعلم، إذ لا تهتم الآيات القرآنية بالجانب التعليمي فحسب، بل يهدف التربية والتزكية أيضاً من خلال بيان القصص الواقعية والحقيقية.

والقرآن الكريم كرر ذكر النبي موسى عليه السلام أكثر من مائة مرة بتعظيمٍ وإجلال، ولكن هذه المرة يذكره بصفته تلميذاً للعالم، الأمر الذي حدى بالبعض إلى أن يعتبر هذا الشخص غير النبي موسى بن عمران عليه السلام، لصعوبة أن يكون موسى العظيم تلميذاً ومتعلماً لغيره، ولكن هذا القول بعيد عن حكمة البيان في القرآن الكريم، إذ لو كان غيره لكان لزاماً أن تبين الآيات مرادها من موسى، فحين أطلق الإسم انصرف إلى المعهود والمتكرر ذكره وهو النبي موسى عليه السلام، مضافاً إلى أن الروايات الشريفة ذكرت أنه هو موسى بن عمران وكان معه فتاه يوشع بن نون وصيه، وكان العالم هو الخضر عليهم السلام.

النسيان آفة العلم

ومن الأمور التي تكررت في هذا السياق هو النسيان، لأنه من آفات العلم، إذ لا يجتمع العلم مع النسيان أو قل لا ينفع العلم معه، ولكن هل النسيان أمرٌ بيد الإنسان لكي يذكّر بإبعاده عنه أم خارجٌ عن إرادته؟

بلى؛ النسيان بيد الإنسان ، إذ للإنسان قدرات وإمكانات كبيرة، ولما يستفد منها بعد، حتى الكملين من البشر لم يستفيدوا من كل طاقاتهم، ومن تلك القدرات تسلط المرء على نفسه وهيمنته عليها، حيث يمكنه أن يتحكم في أمر النسيان، ودليله عدم نسيان المرء للأمور التي تهمه حيث ينشغل ذهنه بها فتبقى محفورة لا تنسى.

ومن هنا على الإنسان أن يبعد النسيان عن نفسه ويكون ذكوراً لكي يصل إلى المقامات العلمية والعملية العليا، ولكن كيف نبعد النسيان؟

هناك كتب ومقالات تبين طرق التذكر والأبتعاد عن النسيان، ولكن القرآن الكريم يبين أن أصل النسيان هو من الشيطان:{ وَ ما أَنْسانيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ}، فلماذا الشيطان؟

في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة تتحدث عن الشيطان ودوره في غواية الإنسان، بدءاً من قصة رفضه السجود لآدم عليه السلام وحتى دخوله النار، فهو العدو الذي أقسم على إضلال البشر،فعلى قلب كل واحدٍ منا اذينين على أحدهما شيطان وعلى الآخر ملائكة، يحدثان التضاد في نفس الإنسان والتنازع بين الخير والشر، ولابد أن نعرف الشيطان كي نتمكن من الإبتعاد عنه.

وبإبعاد الشيطان عن النفس يقل نسيان الإنسان، إذ يسعى الشيطان من خلال إحداثه النزاعات والخلافات المادية والنفسية والإشغال بتوافه الأمور إلى صرف الذهن عما ينبغي على الإنسان، وبالتحرر من هذه الأمور والنوازع يتحرر الذهن فتقل نسبة النسيان كثيراً.

وفي قصة النبي موسى عليه السلام نجد أن الفتى قد نسي أن يذكر أمر الحوت للنبي؟ ربما كان ذلك بسبب إنشغال ذهنه بأمور أخرى ثانوية ما كان ينبغي ان يهتم بها بقدر إهتمامه بأمر الحوت أو على الأقل إهتمامه بأمر طعام النبي موسى عليه السلام.

السعي للوصول إلى العلم

ذكرنا أن تحرك النبي عليه السلام وفتاه للوصول إلى العالم كان تحركاً صعباً للغاية، فقد قطعوا مسافات طويلة وزماناً كثيرة حتى وصلوا إلى حيث ينبغي، بعد أن تجاوزا المحل وعادوا إليه، وفي هذا الأمر دلالة على ضرورة بذل الجهد والسعي الكبير من أجل الوصول إلى العلم، فلا يتأتى العلم بالدعة والكسل، بل يحتاج إلى أجتهاد.

وعلمائنا العظام بذلوا طاقات هائلة من أجل كسب ونشر العلم، ولم يكن ذلك بالمجان أبداً، فالسيد البروجردي رضوان الله عليه كان يتعب أثناء الدرس، ولكيلا يغلب عليه النعاس يطالع وهو واقف على قدميه، إهتماماً منه بالعلم والمعرفة.

اللقاء بالعالم

{فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)}

الله سبحانه أعطى لعبده الخضر عليه السلام نعمتين، إحداهما أعظم من الأخرى، الأولى هي نعمة العلم والأعظم منها الرحمة، والرحمة هي النبوة، فبالرغم من أن العلم مهم جداً ولكنه بدون الإيمان بالله سبحانه يبقى بلا قيمة، قال الله سبحانه:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجات‏}[1]، ولكن حيث يجتمع العلم مع النبوة يكون نعمة عظيمة.

وعلم العبد لم يكن تحصيلياً، بل علمه الله سبحانه من لدنه ، أي بالعلم اللدني.

وحيث وجدا هذا العبد راح النبي موسى عليه السلام يحدثه، ويبدو أنه ترك فتاه لعدم وجودٍ ذكرٍ له لاحقاً ، فماذا قال النبي موسى عليه السلام؟

{قالَ لَهُ مُوسى‏ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى‏ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) }

بتواضعٍ عظيم وأدب رفيع راح النبي موسى عليه السلام يسأل العالم أن يسمح له بإتباعه.

ترى أي خلق كان يحمله النبي موسى عليه السلام، الذي قارع فرعون وأنقذ الآلوف منه وقام بجهادٍ عظيم، فيأتي متواضعاً إلى العالم كي يتعلم منه.

طلب منه أن يعلمه مما علمه الله، ومما أعطاه الله رشداً، فما هو الرشد؟

الرشد يعني بلوغ الكمال، فلكل شيء حدٌ في نموه وتكامله، إذا وصل إليه كان رشيداً، ولكي يصل الإنسان إلى مراتب الكمال يحتاج إلى العلم وكلما زاد علماً زاد رشداً، فالنبي أراد أن يرتقي في كمالاته فطلب من العالم أن يعلمه.

ونستفيد من هذه الآية عدم البحث عن علمٍ لا يفيد الإنسان كمالاً، ولا ينفعه، بل يصب إهتمامه للعلم النافع.

{قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى‏ ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)}

أجابه العالم أنه لا يقدر معه صبراً ، لماذا؟

لإختلاف مستويات علمهما أو بالأحرى إختلاف أبعاد علمها، كيف؟

ليتضح الامر نضرب مثلاً بمريضٍ يعاني من أعراض معينة فيراجع طبيباً يشخص مرضه في أذنه، والثاني في معدته، والثالث في كليته والرابع يرجع الأعرض إلى علة رابعة، وقول الجميع صحيح مع إختلاف المستويات، حيث ينظر كلٌ منهما إلى المرض من بعدٍ لا يراه السابق.

وهكذا هو الأمر بين علم النبي موسى عليه السلام الذي كان مكلفاً بعلم الشريعة، وعلم العالم الذي كان مأموراً بعلم الغيب، وكلاهما من الله سبحانه ، وكان النبي موسى مأموراً بالأول.

وبقدر تواضعه للعلم كان النبي موسى يغضب لله سبحانه ، وإذ لا يجوز لأحد أن يقتل البريء أو يخرق السفينة او.. علم العالم أنه سيعترض ولا يصبر على هذه الأفعال، حيث لا يدري ما وراء الأمر من حكمة من إصلاح الأمر كما بينها العالم لاحقاً، فالسفينة كانت لمساكين يعملون في البحر وكان هناك حاكم يفتش عن سفن ليصادرها فأعبتها لكيلا يأخذ السفينة منهم، فكانت نتيجة فعله الصلاح والإصلاح وإن بدى ظاهراً خلاف ذلك.

فهدف الإصلاح هو الأصل وراء الأعمال، وحيث يكون الإصلاح هدفاً يجوّز الله ما لايجوّز في غيره، كما الكذب لإصلاح ذات البين الذي يكتبه الله سبحانه صدقاً، وقد قال الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله بن زرارة: ” اقْرَأْ مِنِّي عَلَى وَالِدِكَ السَّلَامَ وَ قُلْ لَهُ إِنِّي أَعِيبُكَ دِفَاعاً مِنِّي عَنْكَ فَإِنَّ النَّاسَ وَ الْعَدُوَّ يُسَارِعُونَ إِلَى كُلِّ مَنْ قَرَّبْنَاهُ وَ حَمِدْنَا مَكَانَهُ لِإِدْخَالِ الْأَذَى فِيمَنْ نُحِبُّهُ وَ نُقَرِّبُهُ وَ يَذُمُّونَهُ لِمَحَبَّتِنَا لَهُ وَ قُرْبِهِ وَ دُنُوِّهِ مِنَّا وَ يَرَوْنَ إِدْخَالَ الْأَذَى عَلَيْهِ وَ قَتْلَهُ وَ يَحْمَدُونَ كُلَّ مَنْ عَيَّبْنَاهُ نَحْنُ وَ إِنْ يُحْمَدُ أَمْرُهُ فَإِنَّمَا أَعِيبُكَ لِأَنَّكَ رَجُلٌ اشْتَهَرْتَ بِنَا وَ بِمَيْلِكَ إِلَيْنَا وَ أَنْتَ فِي ذَلِكَ مَذْمُومٌ عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مَحْمُودِ الْأَثَرِ بِمَوَدَّتِكَ لَنَا وَ لِمَيْلِكَ إِلَيْنَا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعِيبَكَ لِيَحْمَدُوا أَمْرَكَ فِي الدِّينِ بِعَيْبِكَ وَ نَقْصِكَ وَ يَكُونَ بِذَلِكَ مِنَّا دَفْعُ شَرِّهِمْ عَنْكَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَ عَزَّ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا”[2].

وهكذا قال العالم للنبي موسى أنه لا يصبر على ما لم يحط به خبرا.

وفي الواقع اصطحب النبي العالم لفترة ليست بقليلة وتعلم منه أموراً كثيرة، وبيان القرآن الكريم للمواقف الثلاث كان للحكمة الموجودة فيها، وليست حصراً لما تعلمه النبي موسى عليه السلام من العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة المجادلة : الآية 11

[2] بحار الأنوار: ج2 ، ص 247