
تدبرات في سورة (الكهف) شهر رمضان المبارك / 1438 هـ – (الدرس السابع والعشرون)
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
{ قالَ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَني فَلا تَسْئَلْني عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْني بِما نَسيتُ وَ لا تُرْهِقْني مِنْ أَمْري عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)}
صدق الله العلي العظيم
من تكاليف المؤمن تجاه ربه ونبيه وأئمته هو التسليم، إذ هو شرط الإيمان الحقيقي وبدونه لا يكون المؤمن مؤمناً، وكما قال الله سبحانه: { فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليما}[1].
ومعنى التسليم الإنصياع التام للأمر والنهي الصادر من النبي وأهل بيته ، قال الله سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْليما}[2]، وينبغي أن يكون تسليم المؤمن كتسليم ذلك الصحابي الذي سأله الإمام عن مدى تسليمه، فقال لو أخذت تفاحةً وقسمتها قسمين وقلت هذا حلال وهذا حرام لسلمت لحكمك.
وحين طلب النبي موسى من العالم أن يصحبه قال له إنك لن تستطيع معي صبراً، قال له موسى عليه السلام:{ قالَ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصي لَكَ أَمْراً (69)}
وفي تقييد صبره عليه السلام بمشيئة الله معاني، منها أنه وعد بالصبر حيث لا يكون الفعل خلاف أمر الله وخلاف الشرع، وتساؤلات النبي وإعتراضاته كانت لله سبحانه وليس لنفسه.
ومنها أيضاً أنه وعد بالصبر أكثر من الإستطاعة الطبيعية وألاستعانة بالله سبحانه في ذلك.
التكليف والإستطاعة
وهنا بحثٌ فهي عن مسقطات التكليف التسع التي عددها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في حديث الرفع، فهي كلها تسلب شرط القدرة والإستطاعة من الإنسان، فالنائم والمكره والصبي قبل البلوغ والمجنون كلهم فاقدوا الإرادة والقدرة.
فالإستطاعة شرط التكليف، وكما الله سبحانه : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[3] وقال النبي الاكرم ، صلى الله عليه وآله: ” فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم”[4]، ولكن أي إستطاعةٍ هي المطلوبة؟
قيل أنها الإستطاعة العقلية، وهذا بعيدٌ عن الصواب، إذ معنى للتكليف أصلاً مع عدم الإستطاعة العقلية، إذ من اللغو تكليف الشيخ أن يعود شاباً لإستحالة الأمر عقلاً.
ومن هنا فإن الإستطاعة المطلوبة هي الإستطاعة العرفية، فالتكليف يسقط بوصوله إلى مرتبة الحرج أو العسر، كما يتحول الأمر بالوضوء إلى التيمم فيما لو كان الوصول إلى الماء حرجياً أو في التوضؤ بالماء ضرر ، وكذلك يسقط وجوب الصوم على الذين يطيقونه ( وهم الشيخ والشيخة) الذين يصعب عليهم الصيام مع إمكان تحملهم له بصعوبة.
وبناءاً على ذلك فإن أدلة الحرج مثل ( ما جعل عليكم في الدين من حرج) والإكراه مثل ( لا إكراه في الدين) و الإضطرار كلها في إطار الإستطاعة العرفية.
والنبي موسى عليه السلام وعد بالصبر بمشيئة الله سبحانه، بعد أن قال له العالم: لن تستطيع الصبر معي أبداً بإعتباره مكلفاً باعمال تخالف الشريعة ظاهراً بينما النبي موسى مكلف بحفظ الشريعة.
{وَ لا أَعْصي لَكَ أَمْراً (69) }
من واجبات التلميذ تجاه معلمه ومربيه أن لا يعصي أوامره ، وهكذا وعد النبي موسى عليه السلام أن لا يعصي أمر العالم ( الخضر) عليه السلام.
{قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَني فَلا تَسْئَلْني عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) }
قبل العالم طلب النبي موسى عليه السلام ولكن إشترط عليه شرط السكوت وعدم السؤال عما يفعله إن اتبعه، بل ينتظر أن يحدثه العالم بحكمة فعله متى ما رآى ذلك مناسباً.
وهذا أدبٌ آخر من آداب المتعلم، إذ عليه أن ينتظر العالم يحدثه لا أن يزحمه بالاسئلة والإشكالات، فالعالم – كما في الروايات- كالشجرة المثمرة، على المرء أن ينتظر لتعطي الثمر ولا يستعجلها.
{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفينَةِ خَرَقَها }
الإنطلاق في اللغة العربية تعني الحركة السريعة والمفاجئة، فيقال إطلق الرصاصة.
وقد ورد في كتب التفسير أنهما تحركا حتى وصلا إلى البحر ( وربما كان نهراً كبيراً يطلق عليه بحراً) فأرادا العبور بالسفينة ولكن أهل السفينة لم يركبوهما بادئ الأمر لكونهما غريبين، ولكن لما توسموا فيهم الصلاح سمحوا لهما بركوب السفينة معهم.
وما أن ركبا السفينة راح العالم يخرق السفينة، ولكن لا يدخل الماء فيها ، وربما كان ذلك بإعجاز أو ملأ الخرق بالقير أو القماش، وكيف كان فقد خرق الخضر عليه السلام سفينة القوم.
{قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) }
لغضبه لدين الله سبحانه، إعترض النبي موسى على هذا الفعل، وقال له أخرقتها كي تغرق أهلها دون أن يسأله عن سبب خرقه لها.
والإمر يعني الداهية العظيمة الذي يقع موقع الخلاف والبحث.
{قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً (72)}
ذكّره العالم بقوله بعدم إستطاعته الصبر، وأنّبه على إستعجاله.
{ قالَ لا تُؤاخِذْني بِما نَسيتُ }
إعترى النبي موسى هيجاناً عظيماً لمخالفة الأمر الإلهي، الأمر الذي أنساه عهده مع العالم بعدم الإعتراض.
وربما لو كان النبي عليه السلام يتوكل على الله سبحانه يزداد صبراً في هذه المواقف.
{وَ لا تُرْهِقْني مِنْ أَمْري عُسْراً (73) }
الإرهاق هو تغطية الوجه أو الشيء بالقهر والغلبة، مما يثقل عليه.
والنبي موسى عليه السلام طلب من العالم أن لا يرهقه فوق ما هو فيه فعلاً من نسيانه الوعد، فطلب أن لا يكثر ملامته الأمر الذي يشق عليه.
وفي هذا درسٌ لنا بعدم الإكثار من ملامة المخطئ، وليكن أسوتنا في ذلك النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حيث لم يكن يواجه المخطئ بخطأه، بل كان يخطب في الناس فيقول مالي أرى أقواماً يفعلون كذا وكذا، وفي بعض الحكم أن لا تواجه المخطئ بخطأه ولا تتحدث في غيابه، ولا تسكت، بل كنّ له خطأه، لكيلا يهراق ماء وجه المؤمن.
{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ }
تحركا في مسيرتهم ، ولا يدرى كم مضى بين الموقفين الأول والثاني، ولكن يحتمل قوياً أن النبي موسى تعلم من العالم أموراً كثيرة في البين – كما قلنا سابقاً- وتخصيص القرآن للمواقف الثلاثة كان لأهميتها.
وصلا إلى مجموعة غلمان وتصفح العالم وجوههم فطلب من أحدهما أن يأتي معه، فأخذه العالم إلى موضعٍ خالٍ فقتله.
وهنا ثارت ثائرة موسى عليه السلام مجدداً لما رأى من إهراق دم بلا سبب – ظاهراً- ، فقال :
{قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ }
القرآن الكريم لا يسوّغ قتل النفس إلا لأحد سببين:
الأول: القصاص، حيث يقتل القاتل، والثاني: بسبب الفساد في الأرض، قال الله سبحانه: { مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَني إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعا}[5]، ولا يجوز القتل في غير هذين الموردين.
والنبي موسى عليه السلام أشار إلى المسوغيّن ،حيث قال ( زكية ) ويقصد منها أنها نفسٌ لم تفسد في الأرض لتستحق القتل، كما أنها لم تقتل نفساً لتقتص منها ( بغير نفسه).
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) }
فهذا العمل عملٌ منكر ولابد أن أنهى عنه.
وفي الواقع لم يكن فعل موسى خاطئاً كما لم يكن فعل الخضر خاطئاً أيضاً، فلابد من الإعتراض على المنكر ولذلك كان موسى على حق، كما أن العالم كان على حق لأنه كان مكلفاً بهذا الأمر ويعلم الحكمة من وراءه دون أن يعلم موسى عليه السلام بها.
ولكن لم يكن ينبغي للنبي موسى أن ينكر الأمر أو يعترض، لأنه كان قد قبل شرط العالم بعدم السؤال، ومن هنا أجابه العالم:
{قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)}
أعاد العالم تذكيره بقوله السابق بأنه لا يستطيع صبراً على ما يقوم به.
وقبل أن نبين الفصول التالية للقصة في البحث القادم نؤكد على ضرورة الأعتبار بهذه القصص وجعلها نماذج للإقتداء بما يمكننا الإقتداء به في حياتنا، فالصراط المستقيم الذي نسأل الله أن يهدينا إليه يومياً ، هو صراط الذين أنعم الله عليهم، وهؤلاء ينبغي أن يقتدي المرء بهم ويتأسى بسلوكياتهم وسيرتهم.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة النساء: الآية 65
[2] سورة الأحزاب : الآية 56
[3] سورة التغابن: الآية 16
[4] بحار الأنوار: ج22، ص 31
[5] سورة المائدة : الآية 32