Search Website

عودوا الى كتاب الله لإعادة صياغة الأمة

عودوا الى كتاب الله لإعادة صياغة الأمة

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في محاضرته بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك:

  • 044·      
  • بسم الله الرحمن الرحيم

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.صدق الله العلي العظيم

حينما صاغت يد الرسالة الأمة الاسلامية، وجعلها الله سبحانه وتعالى خير أمة أخرجت للناس، وجعلها شاهدة على سائر الأمم، وضع لهذه الأمة محطات تعيدها الى صياغتها الاولى بعدما  تعصف بها عواصف الفتن، وتصرف الأمة عن مسارها قليلاً أو كثيراً.

فالقران الكريم بذاته يقيم الأمة ويعيدها – كلما انحرفت – الى مسارها الرسالي.

والحج؛ من المحطات الأساسية التي تعيد الأمة الى تلك الصياغة الأولى التي صاغتها يد السماء، وكذلك شهر رمضان المبارك.

والصيام في شهر رمضان واجب شرعي كتبه الله، ولكن شهر رمضان المبارك بالذات ــ باعتباره شهر الله، وشهر الأمة الاسلامية ــ يتميز بميزات، لو تنبهت الأمة اليها لاستطاعت أن تستفيد منها للعودة الى عنفوانها وقدرتها الاولى.

وربنا سبحانه  وتعالى يبين هذه الحقيقة ـــ وبكل  وضوح ــ حين يقول: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).

 فالقرآن رسالة الأمة، وهو البوتقة التي لابد أن تنصهر كل عناصر الأمة فيها. والقرآن الكريم إرتبط بشهر رمضان الذي إستمد من هذا الكتاب الإلهي قيمته، واستمدت الأمة من شهر رمضان ذات الفوائد المثلى التي كانت للقرآن الكريم. ولذلك جاء في الحديث عن الامام الباقر عليه السلام أنه قال: (لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان)[1].

وبالفعل فإن المسلمين حينما يقبل عليهم هذا الشهر الكريم، تجدهم يقبلون على القرآن الكريم، يتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار، ويتدبرون في كلماته، ويستفيدون من بصائره، ويحاولون صياغة أنفسهم حسب مقاييسه التي هي مقاييس الحق.

وأهم ما في القرآن، أنه اُنزل (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فكل إنسان لو توجه الى القرآن الكريم من دون حجاب، استفاد منه هدى، كما الذي يتوجه الى الشمس، فانه يقتبس منها النور والدفء والحيوية.

نعم، لا يزيد القرآن الظالمين إلا خساراً، لكن الإنسان البريء الذي يتوجه إلى القرآن ـــ حتى وإن لم يكن يؤمن سلفاً بان القرآن كتاب منزل من السماء ــ فانه يستفيد منه هدى، ولذلك يقول ربنا: (هُدًى لِلنَّاسِ). وهذه كلمة عامة تشمل المؤمن وغيره. نعم، المؤمن  يستفيد من القرآن أكثر فأكثر، ولكن غيره بدوره ينتفع من آياته.

وعندما يقول ربنا: (وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فيعني أنّ هناك من يستفيد من القرآن الكريم المزيد من وضوح الرؤية (بَيِّنَاتٍ) وما يميز به بين الحق والباطل (الْفُرْقَانِ). فمن يأخذ القرآن ميزاناً يزن به الحياة، ويتخذه بصيرة يكتشف به الحقائق، فإنه يفرق دائماً بين الحق والباطل، بين ما يصلحه وما يضرُّ به، بين الصديق والعدو، فيكون القرآن عنده فرقاناً يكتشف به الحقائق كما تكشف العين للإنسان الطريق.

ولأن القرآن قد نزل  في شهر رمضان، فعلينا أن نحتفي بالقرآن الكريم أكثر فأكثر في هذه الشهر المبارك.

كيف ذلك؟

عبر صيام شهر رمضان، إذ إن الصيام في شهر رمضان نوعٌ من التحية للقرآن الكريم من الإنسان  المؤمن، وهو نوعٌ من الإجلال والإكرام من الإنسان لرسالة الله، وهو نوعٌ من الشكر لله عز وجل على تنزيله لهذا الكتاب العظيم الذي هو فضل الله على البشر.

وحين يكلف الله عباده بفريضة الصوم، فانه أعلم بأن البشر ضعيف، قد يتعرض لمرض أو لسفر، لذلك فإنه ــ بلطفه ومنّه ــ يرحِّل الصوم ــ في السفر أو المرض ـــ الى وقت آخر، كقضاء لشهر رمضان: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

 ثم قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ). فالله تعالى يكلف الإنسان بقدر سعته وقدرته. وربما يقول البعض: لماذا لا نصوم في السفر أو المرض سواء كان ذلك عسراً وحرجاً علينا أو لم يكن؟

فلهؤلاء نقول: إنّ هذه هدية من الله، فعليك بتقبلها، ومن لم يفعل فقد خالف أمر الله سبحانه وتعالى، فلم يخفف الله بالافطار، بل بترحيل الصوم من شهر رمضان الى وقت آخر. وهذه دلالة على أنا لا نستطيع أن نعمل برأينا وهوانا ونصوم حتى ولو كنا على سفر أو كنا في حالة مرض.

ثم بيَّن ربنا الهدف من ذلك حيث قال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: أن نصوم شهراً كنوع من الشكر لله تعالى، ولأنه أنزل علينا القرآن، وفي القرآن هدانا. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أيها المؤمنون والمؤمنات

ونحن إذ نبارك هذا الشهر الكريم للمسلمين أينما كانوا، نقول لهم: إنّ هذه  نفحة من نفحات الرحمن، فتعرضوا لها، واستفيدوا منها، وتقبلوها، واشكروا الله عليها. إنها محطة إيمانية، فتزودوا منها، وهي فرصة ذهبية للعودة إلى السبيل الرشد وجادة الصواب.

فإن كانت هناك حروب بين المسلمين فلتتوقف، ليلتقطوا أنفاسهم، ويضمدوا جرحاهم، ويؤبنوا موتاهم. ولكي يصلحوا بعض ما افسدته الحرب في بلادهم، ولعل الهدنة في شهر رمضان تكون بداية  للهدنة الدائمية للعودة الى الرشد.

 مع الإسف إن أكثر البلاد الاسلامية تتعرض اليوم لموجات من العنف والعصبية والصراعات السياسية التي غُلّفت بهالة من الحالة الدينية، فالحاكم يريد أن يتشبث بعرشه فيفتري على الله كذباً ويدّعي ان الله جعله حاكماً على الناس. فلا بأس أن يكون هناك حزب سياسي، ولكن دون تكفير المعارضين والمنافسين، ولعل الله يكذبك من فوق عرشه ويقول: أنت الكافر، لأنك تكفِّر المسلمين.

فعودوا الى رشدكم،  عودوا الى كتاب ربكم.

فلنحتكم الى كتاب الله تعالى ونطبق آياته. إذ إن كتاب الله هو الرسالة  الخالدة وهو المقياس بيننا.. فعودوا  أيها المسلمون الى كتاب الله والى هداه، عودوا الى ما يوحدكم، وستجدون في كهف القرآن الكريم ما يؤيكم وما يظلكم بظلال من السلام والأمن والراحة النفسية، أو لم يقل ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، أيّ سِلم هذا؟

فإما ان تُخرجوا أنفسكم من إطار الايمان، أو تتحدوا في إطار كلام ربكم.

إن هناك – اليوم – حروب وصراعات أهلية  في بلاد كثيرة، وقد جربتها بعض البلاد الإسلامية مثل افغانستان والصومال ولبنان، فالى أين وصلت تلك الحروب؟ إن المنتصر في الحرب الأهلية خاسر، فكيف بالمنهزم، لانه ينتصر على إخوته ويقوم بهدم بيته وقتل أهله.

وعلينا أن نتعظ بتجارب التاريخ، إذ السعيد من اتعظ بتجارب غيره. فقد دخل الأسبان في حرب أهلية في أيام الجنرال فرانكو بين  الجمهوريين والملكيين، بعيد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن قُتل منهم مئات الالوف ودُمِّرت بلادهم، إقتنعوا بان الحرب لا منتصر فيها، بل الكل خاسر، فلملموا جراحاتهم، واجتمع حكماؤهم، ووضعوا  لانفسهم دستوراً جديداً، واكرموا قتلاهم، واعتبروهم شهداء من كلا الطرفين.

وفي البوسنة والهرسك  وكرواتيا كانت حروب أهلية قد أحرقت الأخضر واليابس، إلا أنهم عادوا الى رشدهم.

وفي لبنان كانت حرب أهلية طويلة المدى، وبعدها عرف اللبنانيون ان هذه الحرب ليست الا عبثية، وعادوا الى رشدهم. وكذلك الحال في افغانستان.

ونحن – في هذا الشهر الكريم – ندعو الله سبحانه وتعالى أن يمن على إخواننا في سوريا بالحكمة والبصيرة والعودة الى طاولة المفاوضات. فالعالم يريد للسوريين أن يجلسوا على طاولة المفاوضات في جنيف2، ولكن البعض منهم يمتنع، لماذا؟ فإنها فرصتكم للعودة الى الوئام والسلام.

وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يبعد شبح الحرب الأهلية عن مصر، ويجعل حكماء هذا البلد المسلم يعتبرون بما جرى في الصومال، وما جرى ولا يزال يجري في سوريا.

أيها الإخوة والأخوات

دعوا العصبيات، إنها نفثات الشيطان، إنها تراث الجاهلية، إنها دمرت الشعوب وأبادت حضارات، فارجعوا الى الرشد واسمعوا كلام الحكماء.

واليوم نرى الأزهر الشريف يقوم بدور في لملمة جراحات المصريين، ولكن هناك من لا يريد، لأنه يبحث عن الوضع السياسي الملتهب.

وفي العراق، نجد الحوزات العلمية تريد للشعب التحابب والتعاون، ولكن البعض  يحارب هذه الحوزات، ويحارب العلماء الذين ينادون بالسلام، لماذا؟

وعلى الخطباء في هذا الشهر الكريم أن يعالجوا مشاكل  الأمة. فنحن كبشر قد فُرِض علينا أن نتقيد بحدود الشرع والخلق الفاضل الذي بينه لنا الدين، ولكن لا يمكننا الاكتفاء بالفرائض الفردية كالصلاة والصوم والزكاة وصلة الرحم فقط، بل علينا الاهتمام بمسؤولياتنا الاجتماعية أيضاً، فنسعى من أجل معالجة وحل مشاكل الأمة، فهناك – مثلا – نظام خلقي فاسد في المجتمع، يجب أن نتعاون في إصلاحه، وهناك وضع سياسي خاطئ، يجب أن نعمل معاً لاصلاحه، وهناك عقد اقتصادية مرهقة يلزم السعي المشترك لحلها لمصلحة الأمة.

فعلى العلماء والخطباء وكل الذين يستطيعون أن يقوموا بدور التوجيه، سواءً عبر القلم او عبر البيان، أن يعالجوا مشاكل الأمة، أو لا أقل أن ينبهوا الأمة الى هذه المشاكل، ويذكِّروها بما يصلحها.

نحن في العراق مثلاً، نحتاج اليوم الى أن نتواصى ونتشاور ونتعاون من أجل بناء البلد.

 فلا يمكن لجهاز حكومي أن يلقي باللائمة على الناس في وجود المشاكل (مثل مشكلة الكهرباء)، كما على الناس أن لا يكتفوا بالقاء اللوم على الحكومة، بل ينبغي أن يكون هناك نوع من التعاون بين الحكومة والناس، والبحث المشترك عن طرق لاصلاح الوضع، وحل المشاكل الحياتية التي أصبحت ترهق الناس.

إن ربنا أمرنا بالتواصي والتشاور والتعاون فيما بيننا، أمرنا بالاحسان الى بعضنا. إن هذه هي أصول التعامل، وشهر رمضان شهر مبارك، لابد للجميع أن يستفيد من بركاته، ويتحرك للبحث عن حل جذري للمشاكل.

وربما كانت المشكلة الأمنية هي من أبرز المشاكل، وقد قلت وأقول مكرراً إن الأمن مسؤولية الجميع، فعلى الجميع أن يتعاونوا في ايجاد حالة أمنية مستقرة في الأمة.

أيها الأخوة والأخوات

لقد جاءنا هذا الشهر الكريم ببركاته ونفحاته الإيمانية، وجاءنا بكل خير، تعالوا لنستقبله بالترحاب، ونتوجه فيه الى ربنا بالدعاء، والتوبة، والاحسان الى بعضنا، فلو أحسنّا الى بعضنا، فإن ربنا أولى بالرحمة من عباده فإنه يرحمنا.

ليقم كلٌ من موقعه باصلاح نفسه أولاً، ثم المساهمة في إصلاح  المجتمع بأية طريقة ممكنة.

أسأل الله سبحانه أن يجعل هذا الشهر الكريم فرصة ليعود الناس الى رشدهم، وأن تعود الأمة الى خير أمة أخرِجت للناس، كما أراد الله لها.

وأسال الله أن يتقبل من المسلمين جميعاً في هذا الشهر الكريم، صيامهم وقيامهم وتضرعاتهم، إنه سميع الدعاء.


– الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص630.[1]