Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس الثاني عشر)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس الثاني عشر)

      بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولىَ‏ وَمَا نحَنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُواْ بِابَائنَا إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ (36) أَهُمْ خَيرْ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  أَهْلَكْنَاهُمْ  إِنهَّمْ كاَنُواْ مجُرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنهَمَا لَاعِبِينَ (38)}.

صدق الله العلي العظيم

 

أودع الله سبحانه كل إنسان نعمةً في داخله يستطيع بها أن ينطلق في رحاب الحقائق مكتشفاً الحقائق وسالكاً السبيل اللاحب للوصول إلى الفلاح، إلا أن المشكلة تكمن في تكبيل الإنسان لهذه النعمة بمختلف الأغلال، و لتخليصها منها طريقان، الأول يكمن في تنمية هذه النعمة حتى تقدر ان تحطم الأغلال، والثاني هو وجود معين من الخارج للقيام بذلك.

والنعمة تلك، هي نعمة العقل، فنور العقل يخفى تحت ركام الشهوة والغفلة والعصبيات وتحيط به هذه العوامل إحاطة السلاسل بالأسير، والمزيد من إثارته تسهم في تحطيمه لتلك الأغلال، وإن لم يقدر على ذلك يستعين بقوى أخرى، تتجسد في قوة الرسل والأنبياء وبالتالي قوة الوحي، التي تسهم في ذلك، حيث يقوم الأنبياء وخاتمهم النبي المصطفى عليه وآله وعليهم جميعاً سلام الله بتخليص الإنسان مما يحيط بعقله ويثيروا له عقله لينتفع به، قال تعالى:

{الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِم}[1].

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في بيان سبب بعثة الأنبياء:

“فواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويثيروا لهم دفائن العقول”.

ولو تمكن المرء من إثارة عقله وتفعيله، ومن ثم أجال نظره وفكره في الكائنات من حوله ومن ثم أمعن الفكر في نفسه لتوصل إلى بصائر عدة:

 

وحدة المخلوقات

نحن -كبشر- يجمعنا بسائر المخلوقات مشتركات كثيرة، فالعنصر الأساسي واحد، والقوانين الحاكمة واحدة، والسنن الإلهية الجارية على الإنسان هي ذاتها جارية على الحيوانات والنباتات وسائر الكائنات.

وكل ما في هذا الكون نجد مشابهاً له في جسم الإنسان وداخله، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام في البيت المنسوب إليه:

(وتحسب أنك جرمٌ صغير ** وفيك أنطوى العالم الأكبر).

وما يقال عن كون العالم بحجم كرة مضرب قبل مليارات السنين، وانفجار تلك الكرة الصغيرة وتحولها إلى هذه الأكوان، أو بتعبير أفضل كانت السماوات والأرض رتقاً ففتقها الله سبحانه، أقول ذلك الفتق بالإمكان أن يحدث للإنسان أيضاً، أوليس في داخل كل إنسان مليارات الخلايا التي تحمل كل واحدةٍ منها صفات ومكونات إالإنسان الكامل، والتي تتحول الخلية الواحدة إلى إنسان رشيد من خلال عملية التناسخ؟

وبالرغم من وضوح حقيقة التشابه بين الإنسان وما حوله من خلائق، وكما في قوله تعالى:

{سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفي‏ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ }[2]،إلا أن جهل البعض بها يمنعهم ويحجبهم عن الوصول إلى الحقائق التي تلي هذه الحقيقة وتعتمد عليها، فما الذي يستفاد من هذه الحقيقة؟

الذي يصل إليه الإنسان من خلال ذلك: أنه حين يرى جسمه كائن يحكمه العقل وجرمٌ أعمل فيه التدبير، يعرف أن الكائنات هي الأخرى يحكمها العقل والنظم والتدبير، وبالتالي عدم وجود لهو وعبث في الخليقة كلها، بل كل شيءٍ خلق لهدف وغاية، وكل الخليقة مخلوقةٍ لهدف سامٍ.

وهذا الكون الذي خلق على مبنى العقل والعلم، خلقه صانعٌ حكيم ومدبرٌ خبير، وهو الله سبحانه:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ في‏ سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }[3].

وقد حذّر الخالق عباده – المخلوقون لحكمة وهدف- من أن ينحرفوا عن الهدف المرسوم لهم، والطريق الذي دعاهم إليه، لأن عذابه أليم وأخذه شديد.

وهكذا كان محور سورة الدخان، إيصال الإنسان إلى مستوى يعي عدم عبثية الخلق، فهو لم يخلق عبثاً، وكذلك ما حوله من موجودات لم يخلقها الله لعباً، سبحانه، بل كل شيء يسير بإتجاه الهدف المنشود، ولابد للمؤمن أن يعمل فكره ويستثير عقله للوصول إلى هذه الحقيقة وما تحملها من لوازم ومسئوليات، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَ مَا بَيْنهَمَا لَاعِبِينَ}.

 

تكذيب الحساب

وعدم إعمال الإنسان لعقله وعدم وعيه لهدفية الحياة، تحجبه عن إدراك المزيد من الحقائق وبالتالي تجعله يتخبط في الجهل خبط عشواء، الأمر الذي أدّى بالكفار بتكذيب يوم الحساب حين قالوا:

{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ}

 

من المقصود بضمير هؤلاء؟

قيل أن المراد قريش والكفار الذين كانوا في زمن نزول الآية، وبالرغم من صحة ذلك، إلا أن المورد لا يخصص، وآيات القرآن نزلت بلغة إياك أعني واسمعي يا جارة، فكل من غطّى نور عقله بحجب الشهوة والغفلة والعصبية يقول وسيقول بنفس المقالة.

{إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولىَ‏ وَ مَا نحَنُ بِمُنشَرِينَ}

 

ماذا كان قولهم ؟

قيل في تبيين مرادهم، أنهم حصروا الموت في الموتة الأولى، فأين الثانية التي ذكرها الله في بعض آياته؟

والذي يبدو لي أقرب إلى طبيعة تشكيكات الكفار هو التفسير التالي:

يقولون أن الموت واحد وهي الحالة الطبيعية التي تحدث لكل شخصٍ عند إنتهاء أجله، حيث ينتهي كل شيء بانتهاء حياته ولا وجود للنشر.

وفي الواقع فإن الإمر ليس كذلك أبداً:

فأولاً: ليست كل موتة هي موتة طبيعية، فقد يأخذ الله الناس بعذاب ويهلكهم،  فنبذ الله لفرعون وقومه في اليم ليس موتاً طبيعياً، وقد يأخذهم بالزلازل والسيول و.. فيموت الآلاف، فهذه الحوادث واشباهها تختلف مع الموت الطبيعي .

وثانياً: أن العقل السليم يحكم -إنطلاقاً من وعيه لعدالة الله في خليقته وحكمه- يحكم بضرورة جزاء عادل للظلمة، فتقتيل موسليني لآلاف الناس، وإعدام ستالين لأكثر من عشرين مليون من شعبه، وتدمير هتلر لحياة الملايين من البشر.

فهل من العدل أن يموت هؤلاء وينتهي كل شيء بهلاكهم؟

فحين ندقق في الكون ونجده قائماً على نظام الحق والعدل والقسط، حينها يكشف لنا العقل بضرورة وجود الآخرة، ولابدية وجود حسابٍ دقيق وأخذ شديد على ما ارتكبوه من جرائم وموبقات.

والإيمان بالآخرة عن هذا الطريق تم لا من خلال الروايات والآيات القرآنية، بل من خلال إعمال العقل ووعي هدفية الحياة، رغم وجود نصوص روائية تؤكد ذلك مثل قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُون‏}[4].

وقال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله:الناس‏ مجزيون‏ بأعمالهم ان خيرا فخير وان شرا فشر[5].

{فَأْتُواْ بِابَائنَا إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ}

في سبيل إنكارهم للآخرة، وتأكيد نظريتهم الكاسدة، راحوا يطالبون النبي ببرهان على وجود الحساب والنشور، وذلك من خلال مطالبتهم بإحياء الآباء.

ولكن لم يكن للنبي صلى الله عليه وآله أن يكون تابعاً لأهواء الناس ويمشي كما يشتهون، ولو افترضنا إحياء النبي – بإذن الله – ابائهم، لكانوا يقولون أن هذا سحر و.. كما فعلوه بالنسبة لسائر المعاجز.

على الإنسان أن يدرك الحقائق بعقله بعد تخليصه من الأغلال والآصار المختلفة، ومن ذلك الإعتبار بمصير الماضين الذين كذبوا بيوم الحساب، حيث يذكر الله قوم تبع كنموذج تاريخي معهود عندهم بعد بيان قصة فرعون.

{أَهُمْ خَيرْ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  أَهْلَكْنَاهُمْ  إِنهَّمْ كاَنُواْ مجُرِمِينَ}

قوم حمير سكنوا اليمن، وحكموا فيها، واليمن هي أصل العرب الذين انتشروا فيما بعد في الجزيرة العربية وأطرافها، ومن هنا جاء السؤال عن التفاضل بينهم وبين قريش، لأنهم كانوا الأصل، فمن هو تبع؟

كان تبع الحاكم الذي آمن بربه وعدل في حكمه وفتح البلدان،  ومنها يثرب التي دعا قبائلها بالإيمان بالنبي الذي سيظهر ويهاجر إلى بلدتهم، ولكنه لم يوفق للقاء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وترحم عليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وأله ونهى أن يلعن لأنه أسلم قبل موته.

ولكن قومه كانوا قوم سوء مجرمين، فأهلكهم الله سبحانه بعذابه، فليس قريش بأفضل من اولئك ولا أقوى، فلا يعز على الرب أن يعذبهم هم بجرمهم وتكذيبهم.

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنهَمَا لَاعِبِينَ}

وبعد بيان قصة قوم تبع، يبين القرآن الجواب الأساس على شبهات الكفار وهي عدم العبثية في خلق السماوات والأرض، فالحياة قائمة على الهدفية لا اللعب، والهدفية تستدعي وجود جزاءٍ عادل لكل إنسان تجاه أفعاله في الحياة الدنيا.

نسأل الله سبحانه أن يبصرنا بالحقائق وأن يكمل عقولنا لتدرك الحقائق بصورة أفضل، إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  سورة الأعراف : الآية 157

[2]  سورة فصلت : الآية 53

[3]  سورة يونس : الاية 3

[4]  سورة المؤمنون : الآية 115

[5]  الغارات : ج2، ص 649