
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس الثالث عشر)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنهَمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ وَلَكِنَّ أَكْثرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنىِ مَوْلىً عَن مَّوْلىً شَيْا وَ لَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(42)}
صدق الله العلي العظيم
كلمة الحق – التي جعلها القرآن الكريم محور الخليقة – تحمل في طياتها حملاً ثقيلاً سواء من حيث المعنى والمفهوم او من حيث التطبيق على المصاديق الخارجية.
وقد جٌعلت الكلمة هذه، من الكلمات المحورية في آيات الذكر الحكيم، وروايات أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، ومن هنا كان علينا أن نتبصر الكلمة ونحقق في معانيها من جهة ونقوم بمقارنة قيمة الحق مع سائر القيم وكذلك نوجد العلاقة بينها وبين الأحكام الشرعية.
وسنخصص الحديث في هذه الليلة عن هذه القيمة السامية بما يسمح لنا الوقت.
الحق بين المفهوم والمصداق
لو شئنا تعريف الحق لوقعنا في مشكلة تعريف الواضحات، لأن المسلم، سواءاً كان عربياً أو أعجمياً كالفارسي والتركي والماليزي و..و..، قد تعرف على كلمة الحق في حياته، بسبب اقترابه من الثقافة الإسلامية والألفاظ القرآنية.
وبالرغم من ذلك نقول، أن الحق هو نفي نفيه، عدم العدم هو حقٌ، وإذا اردنا أن نضرب بذلك مثلاً، فإنا نعرف النور بنفي الظلام، والحياة نعرفها بعدم الموت.
فالحق اذاً هو عدم الباطل، هذا من حيث مفهوم الكلمة، أما من حيث المصداق فللكلمة تجليات كثيرة في الواقع نذكر بعضها:
مصاديق الحق
الوجود حق
أولاً: من معاني الحق من جهة المصداق، أن الكائنات من حولنا ليست وهماً أو خيالاً، وليست عكوس مرايا من عالمٍ مثاليٍ آخر، بل ما حولنا من كائنات حقيقية وواقعية.
وقد يعجب البعض من هذا الأمر، لأن وجدان الإنسان السوي يحكم بحقيقة الكائنات من حوله، ولكن البعض من السوفسطائيين والمتصوفة ذهبوا بالفعل إلى أن العالم – ومن ضمنه الإنسان – ليس سوى خيال ووهم وصورة منعكسة من عالم آخر عبر مرآة، وإن قيل لهم كيف عرفتم بوجود المرآة ، قالوا بوجداننا، والحال أن الوجدان يحكم بحقيقة هذا العالم، دون ذلك.
وبذلك نعرف أهمية تأكيد النصوص على تكرار شهادة الإنسان بالحقائق، فبالرغم من علم المؤمن بوجود الخالق و بعثه للرسل و حقانية الموت والبعث والحساب و.. الّا انه مطالبٌ بتكرارها المرة بعد الأخرى والشهادة عليها، لكيلا يشك فيها ومن ثم يصل به الأمر إلى إنكارها، كما أنكر القوم واقعية الوجود، ومنه وجود أنفسهم.
نظام الوجود
ثانياً: الإيمان بأن هذا الكون الموجود، يحكمه نظام دقيق وهادف، فكل شيء فيه متقنٌ في الصنع والحركة، قال تعالى عن الشمس والقمر:
{وَالشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْديرُ الْعَزيزِ الْعَليم * وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديم}[1]، وقال عن تسابق الليل والنهار واختلافهم :
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمين}[2]
مدبر الوجود
ثالثاً: لا نظام بلا منظم ومدبر، وما دام الأمر يصدق على الكون كله، فما فيه من نظام متقن وتدبير حكيم، لا يمكن أن يكون دون وجود مدبّر حكيم وحاكمٍ عزيزٍ عليم، وذلك المدبر هو الله سبحانه وتعالى.
حقوق الموجودات
رابعاً: ولأنا آمنا بحقيقة الأشياء وخضوعها لنظام ووجود خالقٍ مدبرٍ لها، وما دمنا اعترفنا بأن كل شيء حق، فلابد أن نعترف بحقوقهم ونؤديها لهم.
فلكل شيءٍ في الحياة حقٌ علينا، كما لنا حقوق تجاههم، وقد كتب الإمام علي بن الحسين عليهما السلام رسالةً ذكر فيها أكثر من خمسين حقاً على الإنسان أن يؤديها تجاه خالقه وتجاه والديه وتجاه استاذه وجاره والناس ونفسه و..
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ “[3].
فكل ما في الكون يسائلنا عليه الله سبحانه، عن الأرض كيف استصلحناها وعمرناها، وعن الحيوانات كيف تعاملنا معه، وعن البيئة هل رعينا حقها أم أفسدنا فيها، وقبل كل ذلك عن حقوق الناس.
وفي حديث يبين أمير المؤمنين عليه السلام ضرورة استصلاح الأرض بزراعتها يقول فيه: ” مَنْ وَجَدَ مَاءً وَتُرَاباً ثُمَّ افْتَقَرَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ”[4].
وقد خصص المحقق الحلي باباً في كتابه الشرائع حول الإنفاق على الحيوانات، كما أفرد المحدث الحر العاملي باباً عن حقوق الحيوان، في كتابه وسائل الشيعة.
النعم وأداء حقها
فكل ما سخره الله لنا في الأرض نعمة علينا، ولابد أن نقوم بشكرها ونؤدي حقها بشكر كل نعمة بحسبها، وليس الشكر فقط قول الحمد لله باللسان وإن كان منه، ولكن الشكر ينبع من روحٍ عارفةٍ بمنعم النعم ومستلذةٍ بما وهبها الله سبحانه فتشكر بارئها على جزيل إنعامه.
والسعادة التي يبحث عنها البشر تكمن في إستشعار الإنسان لنعم الله سبحانه عليه صباح مساء والتلذذ بها لأنها من عند الله، ولكن – ومع الأسف – نجد الكثير من الناس لا يستشعرون النعمة فضلاً عن التلذذ بها، الأمر الذي يحتاج فيه الانسان أن يتضرع الى الله في أن يرزقه إستشعار النعم وشكرها، ومن هنا ورد في الأثر:
” أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَأَنْ تُوزِعَنِي مِنْ شُكْرِ نَعْمَائِكَ مَا يُبْلِغُنِي فِي غَايَةِ رِضَاكَ”[5].
التعايش مع الآخر
قبول الآخر والإعتراف بحقه في الحياة الكريمة، من حقوق الإنسان على نظيره، مهما كان دينه أو لونه أو جنسه، فالله سبحانه خلق الناس أطواراً ومنحهم حق الحياة والحرية فيها، ولا يحق لأحدٍ بحال أن يقصي أحداً او يظلمه أو يقهره بداعي الاختلاف في اللون أو الدين او المذهب.
وتتأكد حرمة القهر والظلم بهذه الدواعي، على رجالات الحكم وأصحاب السلطة، إذ الدول هي محل أقامة ابناءها كلهم، مهما كان دينهم ولونهم.
وحق الحياة الكريمة والتعايش السلمي لا يتعارض بحال مع دعوة المؤمن للآخرين إلى الإيمان بالله سبحانه وبما أمر الله عزوجل.
اليوم الآخر
خامساً: الإيمان بالحق ووعي مفهوم ومصاديق الحق يوصل المرء إلى معرفة ان بعض ما في الحياة يتعارض مع الحق، فحين يجد رجلاً صالحاً يعيش الفقر والجوع وفي المقابل يرى باغياً طاغياً يتنعم بالثروة، يعرف أن الأمر ينبغي أن لا ينتهي هكذا، بل لابد أن يرى الصالح جزاء صلاحه والباغي جزاء طغيانه.
ومن هنا؛ حين يحدثنا الرب سبحانه عن إرتكاز الخلقة على ركيزة الحق وهدفية الحق، يردف الحديث – عادةً – عن الآخرة، لماذا ؟ لأن الآخرة هي يوم الجزاء الأوفى، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، ولا ظلم فيه، قال تعالى:
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُون}[6].
نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لتفسير آيات هذا الدرس في الدرس القادم، إنه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة يس : الاية 38-39
[2] سورة الأعراف : الآية 54
[3] بحار الانوار: ج32،ص 9
[4] بحار الانوار : ج100، ص 65
[5] البلد الأمين والدرع الحصين : ص 100
[6] سورة البقرة : الآية 281