
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس الثالث)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم(1) وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَهُ فىِ لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كلُُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(6)}
صدق الله العلي العظيم
{ حم }
الكلمات المقطعة التي ترد في بداية بعض السور القرآنية كـ (ص، ق، ألم، حم، كهيعص و..) فيها أبعاد مختلفة، ولعل كل مفسّرٍ وصل الى بعدٍ منها وتبناه في تفسيره لها، ولا تضادّ بين التفاسير لما لها من بطون متعددة وتخوم عديدة، ذلك لأن القرآن كلام الله سبحانه، وكما أن الله سبحانه مهيمن على كل جوانب الكائنات، كذلك هي كلماته المباركة.
ومن التفاسير التي نرى بأنها الأقرب لطبيعة الحروف المقطعة، أنها رموز بين الله سبحانه وبين اوليائه المقربين، النبي الأكرم وأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ومن ثم الراسخون في العلم، يستفيد الاولياء من تلك الحروف الحقائق السامية.
{والكتاب المبين}
الأساس في حرف الـ ( واو) أنها تقوم بعطف شيء على شيء وربط شيء بشيء آخر، فقولك (جاء علي وحسن) ربطت الواو مجيء حسن بمجيء علي وهكذا..
و حرف القسم ( واو) يسير في نفس الإتجاه، فحين يقسم المتحدث بالله قائلاً (والله) يعني أن الله شاهد على ما أقول.
وكذلك ما في القرآن من آيات القسم بمخلوقات الله سبحانه مثل الشمس والقمر والليل والنهار و.. هو لبيان أن هذه المخلوقات المقسوم بها هي شاهدة على صدق الحقيقة المبينة في الآيات، فحقيقة أن
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها*}[1]،
يشهد على صدقها كلٌ من الشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض والنفس، وهكذا..
فحين نجد القسم في الآية بالكتاب المبين (القرآن الكريم) فإن ذلك يعني أن القرآن ذاته شاهد على الحقائق التالية، وهي أن الله سبحانه القادر يرسل الإنبياء لإنذار البشر رحمةً بهم، وذلك من خلال آياته المباركات المؤكدة على هذه الحقائق.
والقرآن كتابٌ، بمعنى الحقائق المنظمة والمرتبطة ببعضها البعض والثابتة، فقد يكون الكلام متناثر الأطراف لا تربطه روابط، فلا يكون كتاباً، وقد يكون كذلك لكن لا ثبات له، فلا يكون كتاباً أيضاً، اما القرآن فهو كتاب بمعنى أنه مرتبط ببعضه البعض وثابت لا يتغير.
والقرآن الكريم فوق ذلك، كتابٌ مبين، أي الذي يبين الحقائق جميعاً دون أن يغفل عن شيء يحتاجه الإنسان، قال الله سبحانه: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ }[2].
بلى؛ في القرآن بيانٌ لكل شيء، لكن لا يستفيدها، من يقرأ كتاب الله هذرمةً ولا يهمه في ذلك الّا الوصول الى نهاية السورة فلا يناله من ذلك البيان شيئاً، بل قد يكون ملعوناً وهو في حال تلاوة القرآن الكريم، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
“رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ”[3].
بل يستفيد من بيان القرآن الحكيم، الذين فتحوا قلوبهم لهدى القرآن، وقرأوا آيات الذكر الحكيم ببصائر نافذة، وقلوب واعية، بل عشقوا قرائة القرآن وآنسوا بأياته ساعات وحشتهم، مثل الشيخ الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله عليه، الذي جلس سيد الشهداء عليه السلام على جسده ساعة مصرعه شاهداً له بفضله وبأنه كان يختم القرآن الكريم في ليلة واحدة.
{إنا أنزلناه في ليلة مباركة}
لماذا تم الأمر في الليل وليس في النهار؟
تجيب آيات سورة المزمل على هذا السؤال، بقوله تعالى:
{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قيلاً }[4]،
ففي هدوء الليل وظلمتنه يستنير القلب بوحي الله سبحانه.
ووردت لفظة (الإنزال) في الآية بدل (التنزيل) للدلالة على إنزال القرآن الكريم كله دفعةً واحدة في تلك الليلة.
والمعروف عند العلماء أن القرآن الكريم نزّل منجماً في فترة تجاوزت الثلاثة والعشرين سنة، وذلك بحسب المناسبات المختلفة، فما معنى نزوله دفعة واحدة كما في هذه الآية؟
الجواب على ذلك، يكون في أن القرآن الكريم نزل مرتين، مرة في ليلة القدر حيث نزل كله على قلب نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وأخرى منجمّاً بحسب الأحداث والمناسبات.
وفي بعض النصوص دلالة على أن الإنزال تم في ليلة القدر الى البيت المعمور في السماء الرابعة، أما التنزيل فكان للنبي صلى الله عليه وآله وبصورة تدريجية.
ولكن ما نفهمه من النصوص المختلفة، أن الأمر هو كما ذكرنا، بأن القرآن نزل مرتين على رسول الله صلى الله عليه وآله مرة في ليلة القدر بكله، ومرة بصورة تدريجية، ولم يكلّف النبي صلى الله عليه واله في الأولى أن يبلغه، بل نهي عن تحريك اللسان به، قال تعالى:
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه}[5].
وهنا التفاتة يكل اللسان ويعجز البيان عن أداء حقها بشكل كامل، ولكن نشير اليها إشارة، وهي أن الآية الواحدة لو أنزلت على الجبال لتدكدت، فكيف بقلبٍ حوى في آنٍ واحد كل آيات القرآن الكريم وكل حقائق الكون؟
فأي قلبٍ كان يحمله رسول الله صلى الله عليه وآله، وكيف أنزل القرآن بأجمعه على رسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة واحدة؟
{ ليلة مباركة}
من صفات ليلة القدر أنها مباركة، كيف نفهم ذلك؟
من القرآن ذاته، فالقرآن الكريم كتابٌ مبارك، ونزل في تلك الليلة، فكانت الليلة مباركة بسبب النعمة العظيمة التي أنزلت فيها.
{إنا كنا منذرين}
القرآن الكريم فيه حديثٌ عن الإنذار والتبشير، وبالرغم من وجود الإشارة الى جانب التبشير في الآيات التالية، الا ان هنا حديثٌ صريح عن الإنذار فقط، لماذا؟
ذلك لأن الله سبحانه أحسن خلق المخلوقات: {الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طين}[6]، وهذا هو الأصل في كل شيء، فالسلامة والصحة أصل الخلقة، أما الإنحراف والمرض فهي بخلاف أصل الخلقة لإسبابٍ مختلفة، فالفساد يأتي بفعل الإنسان:
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها }[7]،
وقال تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس}[8].
وحين يخطئ الإنسان ، يبين له الله سبحانه خطأه ويحذره مغبة الاسترسال معه، كما يحذر الدليل السائر في الطريق الخاطئ، وكما ينذر الطبيب المريض مغبة عدم معالجة مرضه بالدواء.
فالله سبحانه ينذر حين يبدأ الإنسان بالإنحراف عن الصراط القيوم، فالله ينذر الأغنياء عاقبة اكتنازهم للثروات وعدم إعانة المحتاجين، والله ينذر أصحاب السلطة أن لا يكونوا جبارين ولا يبغون في الأرض الفساد ولا يظلموا العباد، وهو سبحانه ينذر العلماء الذين لا يقومون بمسؤوليتهم الشرعية بصورة صحيحة ويحذرهم العاقبة السوء التي بإنتظارهم و..
ومن هنا يكون الإنسان بحاجة إلى الإنذار قبل حاجته إلى التبشير.
رسالة ليلة القدر
{فيها يفرق كل أمر حكيم}
كل ما في الكون يحمل رسالةً خاصة للإنسان، ويحمل له نداءً معيناً، وليلة القدر بدورها تحمل رسائل للمؤمن، ومن أهمها: إعلم أيها الإنسان أن لك رباً مقتدراً.
واسم الرب من أعظم الأسماء الإلهية، والرب بمعنى المربي، ويعني ذلك أن الخلق قائم به ومفتاقٌ اليه آناً بعد آن، ولا يستغني عن ربوبيته لحظة.
أيها المؤمن، حقيقة عناية الله المستمرة بك ، وخذ المزيد من الله سبحانه، فالله سبحانه خلقك ليعطيك ويرزقك، الم يقل سبحانه: {ما أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُريدُ أَنْ يُطْعِمُون * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتين*}[9] ،
وفي الحدي القدسي:
“يا ابن آدم لم أخلقك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شيء فإني ناصر لك من كل شيء”[10].
والإيمان بربوبية الله، أي العناية الدائمة والهيمنة الدائمة له على كل شيء، من أهم العقائد التي لولاها كانت عقيدة الإنسان بربه كعقيدة اليهود، واعتباره الهاً عاجزاً عن قضاء الحوائج وبعيداً عن خلقه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
هكذا على المؤمن أن يزيد من إيمانه بالله سبحانه وبربوبيته وقدرته، ليكتسب المزيد من الأجر وينال المزيد من العطاء الإلهي، خصوصاً في ليلة القدر التي فيها يفرق كل أمر حكيم، وكل ما يرتبط بمصير الإنسان لتلك السنة.
نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لإحياء تلك الليلة بمعرفة تامة وسليمة، إنه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الشمس: الآية 9-10
[2] سورة الأنعام : الآية 38
[3] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل : ج4 ، ص 249
[4] سورة المزمل : الآية : 6
[5] سورة القيامة : الاية 16-17
[6] سورة السجدة : الآية 7
[7] سورة الأعراف : الاية 56
[8] سورة الروم : الاية 41
[9] سورة الذاريات : الآية 57-58
[10] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج20 ،ص 319