
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس الرابع)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
[ فِيهَا يُفْرَقُ كلُُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(6)]
صدق الله العلي العظيم
تظهر ربوبية الله سبحانه بشكلٍ أوضح في ليلة القدر، وتتجلى حقيقة كونه سبحانه المربّي للكائنات جميعاً ومنها الإنسان، ذلك لأن ليلة القدر هي ليلةٍ يتم تقدير كل ما يرتبط بحياة الإنسان وبالتفصيل من قبل الله سبحانه، وتمضى تلك التقديرات.
الإنسان بين الجبر والتفويض
والإنسان يحتار دوماً بين أمرين، فمن جهة يرى كثير من الأمور في حياته خارجةٌ عن سيطرته وإرادته وإختياره، فهو لم يكن لينتخب والديه ولا محل وتاريخ ولادته، ولا هو الذي يعين تاريخ ومكان موته، وبينها أمورٌ كثيرة خارجةٌ عن إرادته وإختياره بل وبعضها خارجٌ عن علمه، كما يجهل الواحد منا ما سيجري عليه يوم غدهِ من تقديرات.
وقد دعى ذلك البعض الى القول بالجبر، فما دام الإنسان غير مختارٍ في هذه الأمور وأمثالها، فهو مجبر عليها، وما دام مجبر عليها فلا يتحمل الإنسان مسؤوليةً في حياته تجاه أفعاله.
هذا من جهة، ومن جهة اخرى يعلم الإنسان وجداناً بأنه مختارٌ في تصرفاته وأعماله وشؤونه المختلفة، وحرٌ في انتخابه واتخاذه المواقف، فتجره هذه الحقيقة الى الإعتقاد بأن له الحرية المطلقة، بأن الله سبحانه فوّض اليه كل شيء.
ومن هنا؛ يحتاج الإنسان الى رؤية ثاقبة وبصيرة نافذة لكيلا يجرّ الى عقيدتي الجبر أو التفويض، بل يختار طريق الصواب المتمثل في الجادة الوسطى، فلا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين – كما بينت نصوص أهل البيت عليهم السلام ذلك -.
بلى؛ إن كل ما نملكه هو عطاء الله سبحانه ومن عنده وبإذنه، ولكن الله سبحانه أعطى للإنسان الإرادة والمشيئة والحرية من أجل ابتلائه واختباره، ولو قيست مساحة اختيار الإنسان بالمقارنة بما هو خارج اختياره لكانت ضئيلة جداً، ولكن هذا المقدار البسيط من الحرية كفيلٌ بإدخال المرء الى الجنة أو جرّه الى عذاب الجحيم ، تبعاً للموقف الذي يتبناه الإنسان ساعة الإمتحان الإلهي.
ويبدو لي – كما استفيده من بعض النصوص الشريفة – أن لكل إنسان امتحانٌ مصيري طوال حياته، وهو الذي يحدد مصيره النهائي، وقد يكون ذلك الإمتحان في ساعةٍ واحدة، كما كان إمتحان عمر بن سعد في لحظةٍ واحدة اختار فيها ملك الري وبالتبع العذاب الأليم في النار، وفي المقابل كان امتحان الحر بن يزيد الرياحي هو الآخر في لحظةٍ واحدة، فضّل الجنة على سواها.
ليلة القدر ليلة تقرير المصير
ليلة القدر هي ليلة تجلي ربوبية الله سبحانه – كما ذكرنا – وفيها يتحدد مصير الإنسان.
فالإنسان يقف عاجزاً بين ماضِ لا يستطيع فعل شيء حياله، وبين مستقبل ليس بيده من امره شيء، لكن ليلة القدر هي ليلة تربط الحال بالمستقبل، والسماء بالأرض، والغيب بالشهادة ، حيث يغيّر الرب ما يشاء فيها من أمر الإنسان، وكما في الدعاء في تلك الليلة:
“اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُنِي مِنَ الْأَشْقِيَاءِ وَاكْتُبْنِي مِنَ السُّعَدَاء”[1].
وهذا يعني أن الله المهيمن بيده الأمر كله، يثبت ما يشاء ويغيّر ما يريد، وفي هذا يكمن جوهر الخلاف بين المؤمن والكافر، فالكافر لا يعتقد بربوبية الله سبحانه بعد اذعانه بخالقيته، بينما المؤمن فيرى الهيمنة الإلهية الدائمة على الكون وعليه.
والحق أن الاعتقاد بربوبية الله سبحانه مما يشهد به الوجدان السليم قبل أن يبرهن عليه بالعقل القويم، فالله سبحانه لم يزل عزيزاً قديراً رحيماً، فلم يعي ربنا ولم ينقص من جوده شيء، بل لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرما، وهذه هي ربوبية الله سبحانه، وكلما زاد وعي المؤمن بهذه الحقيقة إزداد قرباً الى الله سبحانه وتعالى.
اطلب المزيد
إذا أدرك الإنسان حقيقة ربوبية الرب سبحانه، فماذا يفعل؟
عليه أن يرفع سقف مسائله الى الله سبحانه، ويعلّي همته في طلبه للحوائج، فمما يمتاز به الإنسان عن سائر الأحياء هو الطموح وعلو الهمة، فهو يتطلع دوماً الى المزيد ، ويطمح للأفضل .
وهذه الهمة التي غرست في الإنسان هي التي تدعوه الى غور المجاهيل بحثاً عن الاكتشافات الجديدة، وبها يقوم بإختراع الجديد ويطور القديم و..
فالتطلع والهمة حالة طبيعية للإنسان، بيد أن المشكلة تكمن في توظيف البعض لها في الإتجاه الخاطئ، بينما على الإنسان أن يجعل همته عالية، ليصل إلى أعلى المراتب واسمى الدرجات، لابد أن يجعل همته الوصول الى مستوى يكون جليس الرب، وكما يقول الله سبحانه وتعالى:
{في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر}[2].
عليك أيها المؤمن أن تكون صاحب همةٍ عالية حتى في دعائك وطلبك للحاجات من الله سبحانه وتعالى؛ فهكذا علمنا أهل البيت عليهم السلام أن لا نكتفي بطلب حاجاتنا منه بل نطلب منه المزيد، مثل قوله عليه السلام:
“وَتُؤْتِيَنِي مِنَ الْخَيْرِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَم”[3] ،
وكما ورد في تعقيبات صلاة الصبح:
“وَافْعَلْ بِي جَمِيعَ مَا سَأَلْتُكَ مِنَ الْخَيْرِ وَأَرِدْنِي بِهِ وَ زِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَسَعَةِ مَا عِنْدَكَ إِنَّكَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ وَصِلْ ذَلِكَ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين”[4].
وكما في أدعية المعصومين، نجد علو الهمة في أدعية الأنبياء والمرسلين، حيث كانوا يسألون الله الأمور العظيمة والكبيرة، فالنبي سليمان عليه السلام يسأل الله ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده – وهذا من علو همته – حيث ينقل الله سبحانه عنه:
{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب}[5].
والنبي إبراهيم عليه السلام يسأل الله سبحانه مجموعة من الحاجات، منها ما يرتبط بإخلاد ذكره في الدنيا بعد رحيله منها، قال الله سبحانه:
{رَبِّ هَبْ لي حُكْماً وَأَلْحِقْني بِالصَّالِحينَ * وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرينَ * وَاجْعَلْني مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيمِ *}[6].
وأن تكون لك همة عالية، لا يعني ذلك أن يكون طموحك عالياً في جانبٍ معيّن، كأن تطمح في الحصول على المال الكثير، بل يعني أن تكون همتك عالية في كل الجوانب، وليس لنفسك فحسب بل لأهل بيتك وأخوتك.
ولأهمية طلب الحاجات في ليلة القدر أوصي الأخوة أن يكتبوا حاجاتهم المهمة قبل ليلة القدر، لكيلا يذهلوا في تلك الليلة عن طلب المهم من الحاجات، وليعلم المؤمن أنه مهما بلغ في الطلب والمسألة تبقى حاجاته ضئيلة في جنب كرم الله سبحانه وجوده.
من حكم الدعاء
الله سبحانه يعطي من سأله ويعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه، ولكنه ندب الى الدعاء وأمر به للمزيد من العطاء، ومن حكمته أن يزيد في العطاء الداعي على الساهي.
وهكذا فإن تقسيمه للأرزاق وتقديره لمختلف شؤون البشر ينطلق من حكمته البالغة: {فِيهَا يُفْرَقُ كلُُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.
{أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
بأمر الله سبحانه يفرق كل أمر حكيم، ويجري الله أمره عبر وسائل مختلفة.
ومن أمره تعالى إرساله للرسل، سواء البشر أو الملائكة.
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
وما إرسال الرسل إلا رحمة بالبشر، فلولا الرحمة الربانية لهلك البشر بأدنى انحراف عن جادة الصواب، او ليس الإنسان يستحق العذاب بمجرد عصيانه للرب؟
بلى ولكن يمهله الله برحمته، ويرسل اليه الإنبياء لينذروه برحمته أيضاً.
والرسل ليسوا رحمةً لأتباعهم والمؤمنين بهم فحسب، بل هم رحمة حتى على أعدائهم ومخالفيهم، بل إن بعضهم هو رحمة مهداة للعالمين، وكما قال الله سبحانه للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمين}[7].
وكما الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله كذلك ذريته الطاهرة، حجج الله على الخلق هم رحمة الله على العالم، وآخرهم إمام زماننا الحجة بن الحسن عجل الله فرجه، الذي يعيش العالم أجمع بيمنه وجوده، وكما في الأثر:
” ُثُمَّ الْحُجَّةُ الْخَلَفُ الصَّالِحُ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ الْمَهْدِيُّ الْمُرْجَى الَّذِي بِبَقَائِهِ بَقِيَتِ الدُّنْيَا وَبِيُمْنِهِ رُزِقَ الْوَرَى وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ وَ بِهِ يَمْلَأُ اللَّهُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلًا بَعْدَ مَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْرا”[8].
نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لإحياء تلك الليلة بمعرفة تامة وسليمة، إنه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إقبال الأعمال : ج1 ،ص 37
[2] سورة القمر : الاية 55
[3] المزار الكبير : ص 73
[4] مصباح المتهجد وسلاح المتعبد : ج1 ،ص 243
[5] سورة ص : الاية 35
[6] سورة الشعراء : الاية 83 – 85
[7] سورة الأنبياء : الاية 107
[8] زاد المعاد – مفتاح الجنان : ص 423