
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس الخامس)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
{ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ(7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يحي وَ يُمِيتُ رَبُّكمُ وَ رَبُّ ءَابَائكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فىِ شَكٍّ يَلْعَبُونَ(9)}
صدق الله العلي العظيم
من الآيات المبصرات والباهرات الدالة على وحدانية خالق الأكوان، هي أن كل الموجودات متصلة ببعضها البعض إتصال حَلَق السلسلة الواحدة، فأصغر ذرة تراها ترتبط -بنحوٍ من الإرتباط – بأكبر مجرّة. ومن أجل تكامل وبقاء هذا الترابط، أعطى الرب سبحانه لكل مخلوقٍ أداةً لتنظيم هذه العلاقة.
فنحن البشر تقوم حواسّنا بتنظيم علاقتنا بمحيطنا، ولو سلبت إحدى الحواس أو عيبَت، أحدثت خللاً في علاقة الإنسان مع محيطه.
الإنسان المخلوق المميّز
ولإن الإنسان يعتبر أفضل مخلوق لله سبحانه، وخليفته في أرضه، وأسجد الله سبحانه الملائكة جميعاً لأبيه آدم عليه السلام، بما فيهم الملائكة الموكلين بمقدرات الكون والطبيعة، والملائكة الموكّلين بالإنسان ذاته مثل الحفَفَظة والكرام الكاتبين و..
اقول، باعتبار الإنسان هو عينة خلق الله سبحانه، وقد رسم له الله هدفاً سامياً أراد له أن يصل الى مرتبة يكون فيها جليس الرب سبحانه، فلذلك أعطاه المزيد من أدوات المعرفة والإرتباط بالمحيط، سواء الظاهرية منها كالحواس الخمس، أو الباطنية مثل العقل.
ليس هذا فحسب، بل يقوّي الرب سبحانه أدوات المعرفة عند الإنسان حالة خورها بإرسال الرسل والمذكّرين والمنذرين، ليثيروا لهم دفائن عقولهم المدفونة تحت ركام الغفلة والشهوة والعصبيات، رحمة به ورأفة، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
“وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول“[1].
العقل أداة النجاة
أنعم الله سبحانه بالعقل على الإنسان، وجعله مرشده وأداة عمله، لماذا؟
ذلك لأن الإنسان يهدف – فيما يهدف في حياته – بناء حضارة، ولا تكون حضارة إلا بعد طي مجموعة من المراحل، والتي قد تحتاج لقطعها إلى آلاف السنين.
ومن هنا فلابد للعقل أن يقوم بدوره في التأمل في علل وأسباب النجاح وأسباب ومكامن الخلل في كل خطوة يخطوها، وكلما تقدم الإنسان يتوجه للعلل والأسباب الأولية أكثر من ذي قبل.
ليس هذا فحسب، بل بعقله يكشف علل المرض وأسبابه، والصحة وأسبابها و.. وكذا يقوم بالتأمل في ما يؤدي الى فلاحه في الآخرة او هلاكه.
وهذا هو معنى التقوى، والفرق بين المتقي وغيره أن المتقي يهدف حفظ نفسه من أسباب الهلاك والعذاب الإلهي، فيمتنع من فعل كل ما يؤدي به الى العذاب.
الإنذار وشرط تأثيره
وإرسال الأنبياء والرسل، ومن بعدهم أوصيائهم والأئمة، ومن بعدهم العلماء السائرين على هداهم و.. كلهم يهدفون إنذار الإنسان، ويحذروه من عاقبة أفعاله الخاطئة، فحين يقول نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله:
“إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[2].
هذا في القيامة أما في الدنيا فالظلم يؤدي الى الفوضى وعدم استقرار الشعوب والحروب و..
لكن دعوة المنذرين ليست كافية لارتداع البشر، بل يشترط في التأثير أن يتلقى الإنسان إنذار المنذر بصورة جديّة، ولا يمر عليها مرور الكرام.
أما اذا إستمع الناس إنذار المنذر وقلوبهم لاهية .. استمعوه وهم يلعبون، فلن ينفعهم قول النبي والرسول مهما كان بليغاً وواضحا.
كذلك من شروط الإستفادة من دعوة الربانيين إحترامهم وتقديرهم، فلا يمكن أن ينتفع مِن إرشاد العالم مَن كان بالعلماء مستهزئاً ولهم قاليا.
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ}
التعامل الإيجابي في قبال إنذار الرسل والأنبياء يوصل الإنسان الى اليقين، الذي يذعن به الإنسان أن الله سبحانه هو رب السماوات والأرض، فليس هو خالقها ومنشئها فحسب، بل ربها المهيمن عليها والتي تقوم به كل آن، أي أن عطاءه تعالى دائم وفيضه سبحانه مستمر.
{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يحي وَ يُمِيتُ رَبُّكمُ وَ رَبُّ ءَابَائكُمُ الْأَوَّلِينَ}
1- { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
الإله الذي يؤله إليه عند الحيرة والمشكلة، ففي ساعة الحرج والضيق يتوجه الإنسان – مؤمناً كان أو كافراً – اليه بقلبه، لا إلى غيره.
2- { يحُي وَ يُمِيتُ }
ودليل وحدانيته وفردانيته، أنه هو المحيي والمميت، فلا محيي غيره – الا بإذنه – ولا مميت سواه.
3- { رَبُّكمُْ وَ رَبُّ ءَابَائكُمُ الْأَوَّلِينَ}
هو الإله الذي ربّاكم وربّى آباءكم الأولين، ولكن لماذا التأكيد على كونه ربّاً للأولين ؟ اوليس كافياً معرفة الإنسان أن الله ربه؟
ذلك لأن البشر وبطابع حبه للآباء يقوم بعد إحترامهم المطلوب إلى تقديسهم المذموم ومن ثم ينتهي به الأمر الى تأليههم وجعلهم آلهة تعبد من دون الله سبحانه وتعالى.
فأساس عبادة الأصنام – وكما يذكر- كان ناشئاً من احترام جيلٍ لصالحي جيلهم، ولحقهم الجيل التالي مخلداً ذكراهم بصناعة أصنام حجرية، وجاء الجيل الذي يليه ليعبد الأصنام من دون الله سبحانه.
بلى؛ لابد من إحترام الآباء والسابقين إن كانوا في خط الإيمان والهدى، ولكن لا يعني ذلك أن يعتبرهم المرء معصومين عن الخطأ ويحمل كل فعالهم على محمل الصواب والإتّباع، قال الله سبحانه:
{ وَالَّذينَ جاؤُا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذينَ سَبَقُونا بِالْإيمانِ وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحيم}[3].
وفي حديث يبين الإمام الكاظم عليه السلام خطورة الإتّباع الأعمى للآباء وتقديس أفعالهم دون استناد الى القيم، حيث يروى أنَّ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام اشْتَرَى دَاراً وَأَمَرَ مَوْلًى لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا وَقَالَ إِنَّ مَنْزِلَكَ ضَيِّقٌ فَقَالَ قَدْ أَحْدَثَ هَذِهِ الدَّارَ أَبِي فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام:
“إِنْ كَانَ أَبُوكَ أَحْمَقَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ”[4].
ومن هنا، فإن ذكر ربوبية الله سبحانه للآباء الأولين هو لمنع تأليههم وعبادتهم، كما فعل الناس في عبادتهم للأصنام – كما مرّ-.
القيم هي المعيار الحق
وليس الآباء فحسب، بل إن إتّباع أي شخصٍ كالعلماء والفقهاء يجب أن يكون إتّباعاً للقيم التي يمثلها العلماء، لا لمجرد أشخاصهم، وبالتالي فلو حاد العالم عن الحق يمتنع المؤمن من إتباعه، وكما حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله من إتباع العلماء في كل أمورهم، حتى في ما تبين للإنسان خطأه، حيث قال صلى الله عليه وآله:
“إِنَّمَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي ثَلَاثَ خِصَالٍ أَنْ يَتَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ يَتَّبِعُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ أَوْ يَظْهَرَ فِيهِمُ الْمَالُ حَتَّى يَطْغَوْا وَيَبْطَرُوا”[5].
المؤمن يتبع القيم، ومن خلال القيم يكتشف أقرب العلماء إليها فيختاره ويتبعه، لأن العلماء والفقهاء، مهما بلغوا من الفضل والعلم يبقون خارج دائرة العصمة، فلا يجوز أن يرفعهم الإنسان الى مستوى الأئمة والأنبياء، كما يحذرون هم من ذلك، فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام:
“إِيَّاكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلًا دُونَ الْحُجَّةِ فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ”[6].
أنا لا أقصد شخصاً من العلماء أبداً، بل أحذّر من أن يقوم البعض بتقديس العلماء بما لا يرتضوه هم أنفسهم، فيرفعوا مقامهم ليوصلوهم الى مقام المعصومين عليهم السلام.
القيم الحقة هي المعيار للاتباع والاقتداء للعالم، أما الرؤى والمنامات او الشعوذات الشيطانية، فهي بعيدة كل البعد عن طريق الدين القويم والعقل السليم، فما يقوم به البعض من إتباع بعض مدّعي المهدوية ومنتحلي السفارة و.. هو عملٌ بعيد عن العقل والعلم والدين.
وقد أعلن لي أحدهم عن إتّباعه لإحدى هذه الحركات الضالة وبيعته مع قائدها، فسألته عن السبب، قال لأنه حضر في منامه وهذا دليلٌ على حقانيته.
قلت له: ما عملك؟
قال: طبيب جراح زراعة الكلى.
قلت له: لو جاءك الذي بايعته في منامك ثم أمرك بأن تزرع الكلى مكان المعدة، هل كنت تفعل ذلك؟
قال: لا.
سألته عن السبب، فقال لأن الجراحة أمرٌ علمي خاضع لقوانين دقيقة، فلا يمكن أن اغيرها.
فقلت له: يا هذا إن جراحةً لعضوٍ في جسم الإنسان يحتاج الى العلم الدقيق، ولا يرتضي بالمنامات حجةً على تغييرها، فهل يكون المنام وسيلة لتغيير دين الله سبحانه وتبديل شرائعه؟
حال الأكثرية في مواجهة الدعوة
{ بَلْ هُمْ فىِ شَكٍّ يَلْعَبُونَ(9)}
الإنذار وإرسال المنذرين رحمة إلهية على البشر، لكن لا يستفيد منها إلا من ألقى السمع وهو شهيد، ومن ثم يصل الى مستوى اليقين بربوبية الله سبحانه وتعالى للكون وما فيه.
ولكن في مواجهة تلك الرحمة، نجد الموقف المتخاذل لأكثر الناس، المتمثل في التشكيك غير الهادف، واتخاذ الدنيا لهواً ولعباً.
الشك قد يكون منهجياً من أجل الوصول الى المعرفة، ولكنه قد يكون شكاً عبثياً، أي الشك لأجل الشك، وهذا ما يبتلي به الناس في مواجهة الإنذار، حيث يشككون أبداً في واقعية الإنذار وصدق الرسل و..
الدنيا ليست محلّا للّعب ومن يتخذها كذلك لا يكون مصيره الا الهلاك والدمار.
وكمثال على إتخاذ البشر الدنيا محلاً للّعب، يشير القرآن الى قصة أهل الجزيرة العربية الذين كذّبوا انذار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله فأخذهم الله بالقحط وابتلاهم بسنيّ كسنيّ يوسف عليه السلام اثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله عليهم.
وهذا ما سنفصل الحديث عنه في الحديث عن الآيات التالية، نسأل الله أن يوفقنا لذلك، إنه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بحار الأنوار : ج11 ، ص 60
[2] جامع الأخبار : ص 155
[3] سورة الحشر : الآية 10
[4] بحار الأنوار: ج 73 ، ص 153
[5] الخصال : ج1 ، ص 164
[6] الكافي : ج2 ، ص 298