
تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس السادس)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتىِ السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ(10) يَغْشىَ النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(11) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ(12) أَنىَ لهَمُ الذِّكْرَى وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ(13) ثمُ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَ قَالُواْ مُعَلَّمٌ مجَّنُونٌ(14) إِنَّا كاَشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكمُ عَائدُونَ(15)}
صدق الله العلي العظيم
في سياق آيات سورة الدخان حقائق كامنة لابد من التأمل للوصول اليها، ومن تلك الحقائق التذكير برحمة الله سبحانه من جهة وربانيته من جهة أخرى أكثر من مرة، عبر بيان كونه سبحانه رباً للإنسان ولآبائه فهو الذي أعطى إبن آدم خلقه ومن ثم رزقه الطيبات وغذّاه منذ نعومة أظفاره و.. فكل تلك التربية كانت من رحمته سبحانه على الأنسان.
ويبدو لي أن التذكير بحقيقتي الرحمة والربوبية الإلهية هي لتبين أن من أبعاد رحمته سبحانه وتعالى إنزال العذاب الدنيوي على الإنسان، لماذا؟
لإن الأدوات الموجودة في الإنسان المكلفة بكشف الحقائق – وكما ذكرنا سابقاً – تتعطل وتضعف بسببٍ من الأسباب، وفي هذه الحالة يحتاج ابن آدم لمنبهٍ خارجي قوي لإعادة تشغيلها وتفعيلها، أرأيت كيف يتم تنبيه المبصر الغافل عن وجود حفيرةٍ بين يديه بمناداته بصوتٍ عال أو دفعه بعيداً عن الحفيرة؟
فتنبيه الغافل هذا بالصوت المرتفع أو دفعه الى جانب الطريق قد يكون مؤذياً له نفسياً او جسدياً ولكنه حسنٌ لأن الهدف من حفظه من الأذى الأكبر وهو السقوط في الحفرة.
وهكذا هو عذاب الله سبحانه الدنيوي لبعض الأمم، انما هو لتنبيههم وإعادتهم لجادة الصواب، وكما قال سبحانه:
{وَلَنُذيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}[1].
فالله سبحانه لم يخلق الدنيا عبثاً ولعباً وانما خلقها بهدفٍ وهو المهيمن على كل ما فيها، ولابد للإنسان أن يسير بإتجاه الهدف المنشود، واذا صار الإنسان لا أبالياً بالنسبة للحقائق يعرّضه الرب سبحانه للعذاب بصورة تدريجية.
درجات العذاب الدنيوي
قد يعذّب الله الإنسان بمفرده لكونه حائداً عن جادة الصواب، وقد يكون عذاب الله عذاباً جمعياً – كما هو الغالب -، حيث يأخذ الله أمة من الناس بالعذاب، والسبب في هذا النوع من العذاب هو وجود حالة التوافق الإجتماعي لدى أبناء المجتمع بالإتجاه الخاطئ.
وفي البشر رغبة شديدة للتوافق مع مجتمعه، على صوابٍ كان أم على خطأ، فيرغب في التلون بلونه ويخشى معارضته، ومن ذلك اشتهر المثل القائل: (حشرٌ مع الناس عيد)، الذي ردّ عليه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قائلاً:
“حشر مع الناس عيد! وهل حشر مع الناس في جهنم عيد”.
وحين تتحول صبغة المجتمع بغير الصبغة الإلهية، ينزل الله العذاب الجمعي، والعذاب الجمعي بدوره يكون على نوعين، منه عذاب تنبيه وإنذار، مثل ما نزل على قوم فرعون من دمٍ والقمل والضفادع و..، ومنه ما ينزل استئصالاً للظالمين مثل ما أنزله الله على قوم لوط عليه السلام.
عذاب الإنذار على العرب
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتىِ السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}
وفي سبب نزول هذه الآيات، ورد أن الله سبحانه أنزل عذاباً على العرب في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى لجأوا الى النبي واستغاثوا به ليرفع الله عنهم العذاب ويؤمنوا برسالته، ففي الأثر روي أن النبي صلى الله عليه و آله قال:
«اللهم العن رعلا و ذكوان، أللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف».
ففي الخبر أن الرجل منهم كان يلقى صاحبه فلا يمكنه الدنو، فإذا دنا منه لا يبصره من شدة دخان الجوع، و كان يجلب إليهم من كل ناحية، فإذا اشتروه و قبضوه لم يصلوا به إلى بيوتهم حتى يتسوس و ينتن، فأكلوا الكلاب الميتة والجيف والجلود، ونبشوا القبور، وأحرقوا عظام الموتى فأكلوها، وأكلت المرأة طفلها، وكان الدخان يتراكم بين السماء والأرض، وذلك قوله تعالى:
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ}. فقال أبو سفيان ورؤساء قريش: يا محمد، أتأمرنا بصلة الرحم، فأدرك قومك فقد هلكوا فدعا لهم، وذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}، فقال الله تعالى:{إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ}، فعاد إليهم الخصب والدعة”[2].
والعذاب الإلهي ليس حكراً على الأولين، بل هو لكل من انحرف عن الجادة، ولا يشترط أن يكون بنفس الشكل والطريقة.
فقد تكون الصاعقة المحرقة التي نزلت بالأمس على المجتمعين لعبادة الشيطان في إحدى الدول الأوروبية من ذلك .
ومن ذلك القحط وعدم هطول الأمطار، أو السيول والزلازل و..
أقول، كلها قد تكون أنماط من العذاب الإلهي لتنبيه الغافلين، الذين لم يستفيقوا بالإنذارات الخفيفة.
المؤمن فطنٌ كيّس، يتنبه الى الخطر بأبسط آياته وعلاماته، بينما يحتاج البعض الى منبهات شديدة وقوية.
{فارتقب}
وردت هذه اللفظة مرتين في كتاب الله وكلا المرتين في هذه السورة المباركة، ويعني الإرتقاب الانتظار المشوب بالقلق.
فالذي ينتظر العذاب ليس كمن ينتظر الرزق او العطاء الرغيد، فالمنتظر للرحمة يعيش الراحة النفسية، بينما المنتظر للعذاب يعيش حالة التوتر والقلق النفسي.
{يوم تأتي السماء بدخانٍ مبين}
تارةً يكون الدخان مادياً وموجوداً في الخارج، كما في الآخرة
(وقد قيل بأن الدخان هو عند الخروج من القبر في الرجعة)[3]،
وقد يكون في عين الإنسان حيث يتخيل الدخان حائلاً بينه وبين السماء من شدة الخوف او الحيرة او الجوع والعطش.
{يَغْشىَ النَّاسَ}
الدخان المادي، او الحالة المؤدية الى رؤية السماء دخاناً تغشى الناس كلهم، أي تغطيهم وتحيط بهم جميعاً، وبالتساؤل عن ماهية الدخان يجيب الرب:
{هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فهذا العذاب هو نتاج فعالكم وعصيانكم، وهو أليمٌ لطبيعة العصيان.
{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}
ساعة العسرة والشدة، يعود الناس وحتى الكفار الى فطرتهم، سائلين الله سبحانه أن يكشف عنهم العذاب، ويطلقون العهود بأنهم سيستقيمون على الخط الصحيح بمجرد إرتفاع العذاب عنهم.
والله سبحانه، برحمته وإتماماً للحجة يرفع العذاب ولكنهم عائدون الى ما كانوا عليه، قال تعالى في الآية الخامسة عشر:{إِنَّا كاَشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكمُ عَائدُونَ}.
بمجرد رفع العذاب، سيعود العاصي الى عاداته الخاطئة وأفعاله المنحرفة، وهذه من مشاكل البشر الكبرى، فحين يرتفع عنه العذاب والألم، ينسى ما كان فيه من حال التضرع الى الله والتوسل اليه، ومرّ كأن لم يدع الله لضرٍّ أصابه.
الإنحراف بين الجذر والثمر
والسبب في ذلك يعود الى فساد العقيدة لفي الإنسان، التي تؤدي الى فساد خلقه، ومن ثم ستكون الثمار أي سلوكه الخارجي فاسداً أيضاً.
ولا يكتفى بإصلاح السلوك ما دامت الجذور أي الاخلاق والعقيدة فاسدة، ومثال ذلك المبتلى بالمعاصي المختلفة مثل الغيبة والتهمة وسوء الظن والتجسس، وكلما أراد التوبة منها عاد فيها، والسبب في ذلك أن جذر هذه المعاصي هو المرض الخلقي المتمثل بالحسد، فما دامه لم يعالج الحسد في قلبه لا يمكنه التخلص من هذه الذنوب.
ومن هنا؛ علينا أن نصلح جذور الأخطاء والانحرافات السلوكية في أنفسنا في هذا الشهر الفضيل، والا لا ينفع الإستغفار من الذنوب الظاهرة لأن العود اليها سيكون سريعاً.
{أَنىَ لهَمُ الذِّكْرَى وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ}
تبين هذه الآية مشكلة القوم، التي بسببها سوف يعودون الى انحرافهم بمجرد رفع العذاب عنهم، وهي أن بصيرتهم كانت معيوبة.
كيف لهم أن يستقيموا وهم قد رفضوا تصديق خير خلق الله وصفوته، وأصدق الخلق قولاً وفعلاً، وهو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وكانت رسالته واضحة ودعوته مبينة، ولكنهم امتنعوا عن الاستماع له.
{ ثمُّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَ قَالُواْ مُعَلَّمٌ مجَّنُونٌ}
فبالرغم من أنهم لم يعهدوا منه الاّ الصدق والأمانة طيلة أربعين سنة، الّا أنهم كذبوه بمجرد إعلانه لدعوته وأنه نذيرٌ لهم بين يدي عذابٍ اليم، فقد رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ] صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ذَاتَ يَوْمٍ الصَّفَا فَقَالَ:
“يَا صَبَاحَاهْ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالُوا مَا لَكَ قَالَ أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ أَوْ مُمْسِيكُمْ مَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبّاً لَكَ أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا فَنَزَلَتْ سُورَةُ تَبَّتْ”[4].
{ثم تولوا عنه}
ثم تدل على التراخي، فبعد ان أتم النبي صلى الله عليه وآله حجته وبين دلائل نبوته في دعوته لهم، تولوا عنه وراحوا يتهموه بأعظم التهم.
{وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مجَّنُونٌ}
معلّم: الذي يعلمه غيره ويملي عليه، حيث قالوا بأن عبداً رومياً يتلو عليه هذه الآيات ويكتبها هو، وأجاب الله سبحانه على هذه التهمة في آية أخرى حيث قال:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبين}[5] ،
فالرومي أعجمي فأنّى له أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وآله آيات الكتاب العربية والفصيحة؟
مجنون: الإتهام بهذه التهمة العظيمة كان لما كانوا يرون فيه صلى الله عليه وآله من عظمة الشخصية ورسوخ العقيدة، وشدة العزم على ما أراده الله سبحانه وتعالى، فقد كان يدور صلى الله عليه وآله بين الخيام في موسم الحج ويجالس الحجيج مبلغاً لهم التوحيد، وبمجرد خروجه عنهم يدخل أبو جهل على القوم ويخبرهم بأنه عم النبي صلى الله عليه وآله، وثم يتهمه بالجنون لكيلا يتأثروا بكلماته المباركة.
تكذيب الرسول كفرٌ بالله
ولكن لماذا لم يجعل الله سبب عودهم الى الإنحراف الكفر به جلّ وعلا، بل تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله؟
لأن مشكلة البشر في أمر الإيمان تكمن في عدم تسليمهم للنبي، إذ يصعب عليه أن يخضع لبشرٍ مثله ومن بني جنسه، خصوصاً إن كان الرسول قد عاش معه عمراً، حسداً منه و حنَقا، وقد قال قائلهم: “ كنا و بنو هاشم كفرسي رهان نحمل إذا حملوا، ونطعن إذا طعنوا، ونوقد إذا أوقدوا، فلما استوى بنا وبهم الركب، قال قائل منهم: أنا نبي لا نرضى أن يكون في بني هاشم”[6].
{إِنَّا كاَشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكمُ عَائدُونَ}
فلما كانت العقيدة منحرفة والخلق فاسد، فإن العود الى السلوك الخاطئ سيكون سريعاً بارتفاع العذاب، كما حصل بالفعل، وكما حصل مرةً أخرى حين عفى عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله بعد فتح مكة، وإسلامهم بالظاهر، وعودهم الى الطغيان بعد حين، حيث حاربوا وصيه وأهل بيته وقتلوا إبن بنته سيد شباب أهل الجنة عليه السلام.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن يتعض بآيات الله سبحانه، إنه ولي التوفيق، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة السجدة : الآية 21
[2] البرهان في تفسير القرآن : ج5 ، ص 13
[3] تفسير القمي : ج2 ،ً 291
[4] مناقب آل أبي طالب عليهم السلام : ج1 ، ص 46
[5] سورة النحل : الآية 103
[6] البرهان في تفسير القرآن : ج2 ،ص 683