Search Website

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس التاسع)

تدبرات المرجع المُدرّسي في سورة (الدخان) شهر رمضان المبارك / 1437 هـ – (الدرس التاسع)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لىِ فَاعْتزَلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مجُّرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ(23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا  إِنهَّمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كمَ‏ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) وَنَعْمَةٍ كاَنُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَالِكَ  وَ أَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ (28)}

صدق الله العلي العظيم

 

لكل حقيقة في هذا الكون رسالة يوجهها إلى الإنسان، وكذا كل آية في القرآن الكريم تحمل رسالةً لآحاد الأفراد، ومن أجل وعيها لابد أن يطهر المرء قلبه ويزكي نفسه، لينتفع بتلك الآيات ويعتبر بالحقائق المبثوثة في الآفاق.

وفي هذه المجموعة من آيات سورة الدخان بصائر عدة يستفيدها المؤمن في حياته الفردية والإجتماعية:

 

التعايش السلمي بين الأديان

{وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لىِ فَاعْتزَلُونِ}

ماذا عنى النبي موسى عليه السلام بهذه الكلمة؟

لتبيين ذلك، لابد أن نقول، أن علاقة المسلم بغير المسلمين من أتباع الملل والنحل، تكون على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: علاقة العداوة والحرب، إذ يعادي الكافر المسلمين، فيدافع المسلمون عن أنفسهم ويحاربون المعتدي، مثل ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين مشركي قريش، ومثلما نعيشه اليوم من معاداة مع الصهيونية، والذين يشكلون جزءاً من أتباع الديانة اليهودية.

النوع الثاني: علاقة الذمام، وذلك حين يعيش غير المسلم -كاليهود والنصارى- تحت ظل الحكومة الإسلامية بإمان وسلام بعد إعطائهم للجزية والإلتزام ببعض الشروط والعهود المبرمة، ومثاله ما كان من أمر اليهود في المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.

وقد تحدث الفقهاء عن هذين النوعين في كتبهم الفقهية، إلا أن هناك نوعاً ثالثاً من العلاقة لم يتم التطرق إليها كثيراً وهي:

النوع الثالث: علاقة المعاهدة، وذلك يكون بين المسلم وساير الناس، من الكفار وأهل الكتاب، إذ لا يحارب أحدهم الآخر، بل يعيش كلٌ منهم حياته شريطة عدم تأليب أحدهم على الأخر.

 

غياب لغة التعايش

ولأن التاريخ الإسلامي كتب -غالباً- بأقلام السلطات الأموية والعباسية والعثمانية، المنحرفة عن الدين الإسلامي الصحيح، فإن أتباع الديانات الأخرى قرأوا الإسلام من زاوية تلك السلطات ومن بعدها سلطات المماليك والطغاة، لذلك ترسمت لديهم صورة نمطية خاطئة من الإسلام في مجال التعايش مع الأخر.

ذلك لأن السلطات المنحرفة بعد رسول الله لم يسيروا بسنة النبي صلى الله عليه وآله في موضوع نشر الدين، حيث شنوا الحروب على الدول المختلفة تحت شعار نشر الإسلام،  والتي لم تكن تهدف – في حقيقتها – إلا توسعة السلطة.

والحق أن الدين لم ينتشر بالحروب والغزوات مثلما انتشر بالدعوة الصادقة والأخلاق الحسنة والكلمة الطيبة، إذ لم يخض النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حرباً إبتدائية، بل كانت غزواته كلها دفاعاً عن النفس وعن المسلمين، فمتى شنّ النبي الحرب على المناطق لإدخالهم قهراً في الإسلام؟ بل كان دأب النبي إرسال الرسل والمبلغين لنشر الدين بالكلمة.

ولأن هذه القضية مطروحة في العالم، وارتسمت صورة خاطئة تجاه الإسلام لدى البعض من أتباع الأديان، لابد أن نوضّح للعالم أن، الله سبحانه لم يكره أحداً على الإيمان،  وليس من شأن الإسلام أن يحارب الناس لإدخالهم قسراً في الدين، إنما يحتاج الى القسر من لا يملك الحجة والبرهان، أما من كان يملك قوة المنطق فلا يتوسل بالأساليب القهرية، كما لم يتوسل النبي وأهل بيته عليهم السلام بالقوة لإثبات حقانيتهم، في حين توسل أعداءهم بالقهر والغدر للتمكن من أعناق الناس.

وعلى العالَم أن يميّز بين مدرسة القرآن والعترة، وبين المدرسة الدموية عند أتباع بني أمية وبني العباس، فمدرسة القرآن والعترة  تدعوا الى التعايش والألفة مع أتباع سائر الأديان  -إن لم يبتدأوا بالحرب -، قال الله سبحانه فيما يتعلق بالتعامل مع غير المسلم: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين‏}[1] .

فالمؤمن يملك من المنطق والبرهان ما يتجاوب معه كل منصف في العالم، ويتبعه في أمره ذوي الألباب، لأن خطاب الإسلام هو خطاب الفطرة، وقد قال الله سبحانه:

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون‏}[2].

 

النبي موسى يدعو الى التعايش

{وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لىِ فَاعْتزَلُونِ}

والنبي موسى عليه السلام دعا فرعون وقومه إلى التعايش السلمي إن لم يؤمنوا به، فلا له ولا عليه، بل ليتركوه يعيش كما يعيش الآخرون.

وبذات المنطق خاطب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قريش، حين طلب منهم أن يتركوه لينشر دينه بين سائر العرب، فإن كان له النصر فهو أحدهم، وإن لم يفلح في رسالته فذلك مرادهم في  عدم إنتشار ذكره.

وقال لهم – كما قال الله عزوجل-  ايضاً: {لَكُمْ دينُكُمْ وَلِيَ دين‏}[3].

وكذلك طالب الإمام الحسين عليه السلام، في كربلاء أن يتركه القوم ليعود من حيث أتى أو يذهب إلى أي مكان، دون أن تراق الدماء، ومن بعده قال ولده الإمام زين العابدين عليه السلام لأهل الكوفة حين خطب فيهم، وطلب أهلها أن يأمرهم ليأتمروا بأمره، قال عليه السلام لهم:

رَضِينَا مِنْكُمْ رَأْساً بِرَأْسٍ‏ فَلَا يَوْمَ لَنَا وَلَا يَوْمَ عَلَيْنَا”[4].

 

إنهم قومٌ مجرمون

{فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مجُّرِمُونَ}

لا يهدف الرسل إلا إسعاد البشرية، فهم يسعون جهدهم لتخليص الناس من ظلماتهم وهدايتهم إلى نور الإيمان والأمان، ولكنّ إن لم ينتفع الناس بدعوتهم وقاموا بمحاربة الرسل، فهم يستحقون العذاب على إجرامهم.

وقوم فرعون، حين لم ينفعهم نصح النبي موسى عليه السلام ولا دعوته للتعايش السلمي، حيث ارتكبوا الجرائم تجاهه – مضافاً الى سائر جرائمهم – حيث حاربوه وزجّوا به إلى السجن لفترة و..، حينذاك دعا النبي موسى عليه السلام ربه مبينّا مآل القوم.

والملفت في الآية، أن النبي موسى عليه السلام، لم يدعُ على قومه بالعذاب، بل بيّن لله سبحانه حالتهم، معلناً عدم إنتفاعهم بوجوده وبدعوته وبما جاء به من عند الله سبحانه من سلطان مبين.

{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا  إِنهَّمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ}

لم يترك فرعون موسى عليه السلام، وقومه يعيشوا بآمان، بل راح يضايقهم ويعذبهم، حتى حين أمر الله النبي بالخروج من مصر، راح يتبعهم ليقضي عليهم، وهكذا أمره الله سبحانه بالتحرك ليلاً، وبسرية  وترك البحر رهواً لأنهم استحقوا بإجرامهم العذاب الإلهي.

 

عاقبة المجرمين

أخطاء الإنسان قد تأتي على كل جهوده في حياته إن كانت فادحة، فقد يبني الإنسان بناءاً يصرف عليه عمراً، ولكنه يهدمه في طرفة عين بسبب خطأ جوهري، وأكثر سعي إبليس مع ابن آدم من هذا النوع، حيث يدفعه لإرتكاب الخطأ المدمر.

مثال ذلك ما كان في بناء الفراعنة لحضارتهم في مصر، وما يكتب عن كيفية تنظيمهم للري من خلال تفريع نهر النيل، والزراعة المنظمة في الصحاري والأبنية المرتفعة – التي لا زال بعضها شاهداً على عصرهم – و.. كل ذلك دليل على تقدمهم في الجهة الحضارية، ولكن خطأهم في التعامل مع رسول الله سبحانه، كان بمثابة قنبلةٍ كبيرة تدمر كل شيء.

ويذكر الله سبحانه عاقبة فرعون وقومه، لنعتبر بها، ولا نقع في مثل ما وقعوا فيه من أخطاء مدمرة.

وبخلاف سائر آلوان العذاب التي كان يدمر مدن الأقوام الطاغية، أغرق الله فرعون وجنده، وأورث مدينتهم، قوماً آخرين من بعدهم، وتبين لنا آيات الذكر بعض ملامح تلك الحضارة:

 

ركائز الحضارة

{كمَ‏ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}

تحتاج الحضارة إلى:

اولاً: الإكتفاء الغذائي، وهذه ركيزة أساسية لأية حضارة، بل لا حضارة تقام بلا طعام كافٍ لأبناءها، وقوم فرعون امتلكوا الجنات: ألبساتين النظرة، والعيون النابعة من الأرض مضافاً الى ما كان يصل إليها من تفرعات نهر نيل.

{وَ زُرُوعٍ }

والجنات (اي البساتين) توفر أنواعاً معينة من الغذاء، ولابد من وجود مزارع توفر الحاجات الأساسية للمجتمع من الناحية الغذائية، والتي كانت بدورها متوفرة في مصر:

{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}

ثانياً: الحاجة إلى السكن من ضروريات أية حضارة، ووجود مساكن متناسبة وحاجة المجتمع تدل على تقدم المجتمع حضارياً.

ماذا يعني  المقام الكريم؟

لبناء البيت ثلاثة أهداف:

الأول: الأمن من هجمات الوحوش والحيوانات والمعتدين من الناس، وكذلك حفظه من البرد والحر والمطر و..

الثاني: الحرية في البيت، فللإنسان حريته في بيته دون أن يمتلك تلك الحرية خارجها.

الثالث: ملأ الحاجات المعنوية في نفس الإنسان، مثل الجماليات والكماليات، ومن هنا فالبيت هو دليل ذوق الإنسان، لذلك يتفنن البشر في بناء البيت ويجمله بما لا ضرورة حياتية فيه.

وكلمة (المقام الكريم) تحوي الأهداف الثلاثة في بيوت أهل مصر، فهي مقام لحفظ الإنسان وحمايته، وهذا المقام كريم يضمن للإنسان حريته، ويوفر له حاجته المعنوية.

{وَنَعْمَةٍ كاَنُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ}

ثالثاً: الحضارة المتقدمة بعد توفيرها للحاجات الضرورية تقوم بتوفير الكماليات للإنسان، وهذا ما تبينه الآية عن ما كان عند قوم فرعون.

فالنَعمة هي النِعم الكثيرة، ألتي أنعم الله عليهم بها مضافاً الى البساتين والزروع والمقام الكريم، وكانوا يتفكهون بها، أي متنعّمين كما يتنعّم الآكل بأنواع الفواكه.

{كَذَالِكَ}

يبدو أن المعنى من(كذلك) هو بيان الطرف المقابل من الأمر والنتيجة النهائية  له، أي هكذا كان فصار هكذا ..

ففي العرب تستعمل (كذلك) لتغيير مجرى الحديث من إتجاه إلى الإتجاه المقابل.

وقد يكون المراد (كَذلِكَ) أي أنّ هذه سنة تجري في الحياة على كلّ من يترك القيم، ويرفض هدى اللّه، وما هذه النهاية المريعة التي صار إليها فرعون وجنده وملؤه إلّا صورة لعاقبة كلّ أمة ترفض قيادة الحق، وتسلم زمامها لقيادة الطغاة.

{وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ}

فكل ما كانو يملكون من جنات وبيوت ونعم كثيرة، إنتقل-  بإجرامهم – إلى قومٍ آخرين.

ولو لم يكن يقوم فرعون بإتباع النبي موسى  عليه السلام إلى البحر، لما وصل به الأمر الى ما وصل إليه من العذاب الإلهي، لإن النبي موسى عليه لسلام – وكما مرّ- طالبه بإعتزاله، إلا أن غروره وإستكباره منعاه من تبصّر الحقائق.

ولم يصل فرعون إلى ما وصل إليه من تكبر وعناد بين ليلة وضحاها، بل هو عاقبة عمرٍ طويل قضاه في الإتجاه المنجرف، ذلك لأن الصفات النفسية – خيرها وشرها – تنمو في الإنسان بصورة متدرجة، كما هو حال أعضائه الخارجية التي تنمو شيئاً فشيئاً، وعدم منع صفات الشر من التفاقم في بدايتها يؤدي إلى أن تدمر تلك الصفات حياة الإنسان.

من هم الآخرون الذين أورثهم الله حضارة فرعون؟

قيل أنهم من تبقى من بني اسرائيل في مصر، حيث لم يخرج بنو اسرائيل بأجمعهم مع النبي موسى  عليه السلام، فهؤلاء هم الذين أورثهم الله مصر.

وقيل – وهو الأقرب إلى الواقع – أن الوارثين هم النبي موسى عليه السلام وقومه، حيث عادوا إلى مصر، وأورثهم الله كل ما ترك آل فرعون، حتى زينتهم وحليّهم، وأقام النبي موسى فيها حكومةً إلهية، قبل أن يأمره الله سبحانه بالخروج إلى إتجاه كنعان.

 

نسأل الله سبحانه أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يوفقنا للإعتبار من الماضين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  سورة الممتحنة : الآية 8

[2]  سورة آل عمران : الآية 64

[3]  سورة الكافرون : الآية 3

[4]  اللهوف على قتلى الطفوف : ص 160