تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس العاشر)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ(15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ(16)اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ(18)
صدق الله العلي العظيم
إنّه أوّاب:
كما قدّمنا في بداية سورة [ص] أنّ هذه السورة تُنقل الانسان من انحصار تفكيره في الدنيا الى افق اوسع والتوجّه الى عالم الخلود.
إذ أننّا نعيش في هذه الحياة التي هي احدى المنازل التي يستقرّ الانسان وهو بالرغم من أنّه اقصر العوالم من حيث الزمان الّا أنه الأهم من حيث الامتحان.
وحين يُفكّر الانسان من هذا البعد فإنّه سيجد نفسه في واقع جديد مختلف تماماً عن السابق اذ كان لا يفكّر الّا في يومه وكما قال اولئك: [وَقَالُواْ رَبَّنَا عجَّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحْسَابِ]
صيحة واحدة:
اولئك الذين كانوا يغترّون باموالهم وسُلطتهم وكثرتهم ربّنا عزّ وجل يبيّن لهم أنّهم لا يملكون الّا بعض ما ملكّهم الله واكبر خطأ يرتكبوه أنّهم يتحدّون بقدرتهم جبروت الله. يقول تعالى:
[وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً].
لكل حدث صوت فالزلزال يُحدث صوتاً واندكاك الجبال او الانفجار كلّها احداث يصحبها الصوت وهُنا تعني الصيحة الصوت ايضاً وبهذا المفهوم تعني أنّ حركة غير طبيعية تحدث في عالم الطبيعة.
[مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ]
عادة العرب باعتبار حياتهم التي كانوا يستخدمون الابل كثيراً ولذلك في الكثير من الاحيان نجد اصطلاحات مشتقة من معاني للابل ومنها فواق.
المشتق من فُوَاق الناقة، وذلك أنها تُحلب ثم تترك ساعة حتى تدرّ ثم تحلب.
وأساس الكلمة من الرجوع، فالافاقة من النوم او من الاغماء أي لا رجوع بعدئذ لأنّ قدرة الله محيطة بكل شيء.
وعلى الانسان أن يعلم بأنّه لن يستطيع تحدّي الرب جل وعلا. وفي قصّة المكوك الفضائي الذي اطلق عليه [جالينجر] أي التحدّي كيف تلاشى بعد 13 ثانية من انطلاقه..فهل يفكّر احد أن يتحدّى قدرة الرب؟
قد اعطى الله للانسان مهلة لكن لا يخرج ذلك من ارادة الرب المتعال.
ملكوت الارض:
وفي هذا المجال يُروى عن أبي عبد الله (ع) أنّه: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات، ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا.
فأوحى الله يا إبراهيم إن دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت لم أخلقهم، إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف، صنف يعبدني ولا يشركون بي شيئا فأثيبه، وصنف يعبدون غيري فليس يفوتني، وصنف يعبدون غيري فأخرج من صلبه من يعبدني[1]
اذن هؤلاء ما ينظرون الّا صيحة ما لها من فواق.
اذكر عبدنا داوود:
ثمّ يذكر الرب قصّة داوود النبي (ع) فما هي ؟ وما هي الدروس التي نستلهمها من القصّة؟
يقول ربّنا :[ اصْبرِعَلىَ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ]
فما نُعت به داوود أنّه كان [ذا الأيد] التي تعني مع التوجه الى لحاظها الخاص بمعنى القوّة وبما أنّ تجلّي قدرة الانسان في يده سُمّيت بهذا الاسم.
اذن داوود (ع) كان صاحب القدرة, لكن داوود مع القدرة التي كانت عنده لم يغتّر بهذه القدرة اذ كان [أوّاب] فحين كانت تتجلّى عنده القدرة تراه يتوب الى الله.
نحن البشر نعيش في هذه الحياة ولنا أبعاد جسمانية تقتضي الغفلة عن الله لكن المؤمن ما إن يبتعد وينسى ذكر الله يسرع العودة الى الله, فيتوب ويؤوب الى البارئ الرحيم.
ليس بالضرورة بعد ارتكاب المعصية بل حتّى مع التوجّه الى الماديات فإنّه يغفل عن الله فيُسرع في العودة والانابة الى الله.
داوود مع ما كان له من المنزلة فكان نبياً وقائداً و …الخ فلم يكن داوود بعيد عن الله سبحانه وتعالى فكان يعود الى حالته الأولية بسرعة.
اولاً: البعض يُفكّرون أن افضل خيار للانسان هو الذهاب الى الصومعة التي يخلو بها الانسان ويتفرّغ للعبادة.
وهذا تفكير خاطئ اذ اننا كبشر لابدّ ان نعيش في الحياة ونتعايش مع المجتمع ونكون في الناس ولا نكون معهم أن نملك كل شيء ونحذر من أن يملكنا شيء وهذا هو التحدّي الكبير للانسان والامتحان العسير له.
ثانياً:البعض يفكّر ان المؤمن يكون بائس فقير.
وهذا التفكير ايضاً خاطئ بدوره اذ أثبتت التجارب أن التجار الكبار هُم في الغالب من المتدينين او الطلبة المتفوقين هم كذلك من المتدينين لأنّ الاخلاق الدينية ترفع المتدين الى الاعلى وهكذا يعيش المتدين حياة هانئة في الدنيا متفوقاً على الآخرين والمثال على ذلك داوود وسليمان الذي سيأتي التفصيل عنهما.
اصبر على ما يقولون
يُخاطب الرب نبيّه بأن لا تتأثر بما يقولوه, وهذا درس لكل من يحمل رسالة في هذه الحياة فهو لا ينبغي ان يفكّر بما يقوله الناس.
اليوم نجد الاعلام المُزيّف الذي لا يألو جهداً في تزوير الحقائق واعطاء انطباع سيء عن المؤمنين المجاهدين علينا ان لا نهتم به .
وعلى الانسان ان يحذف بالاساس أي كلام لا قيمة له من ذهنه لأنّه قد يبقى فيتحول في ذهن الانسان الى موقف مضاد فاذا ما حذفه الانسان لا يتأثر به.
وفي هذا المجال يُروى أنّ نصرانياً قال للامام الباقر (ع) أنت بقرقال أنا باقر.
قال أنت ابن الطباخة قال ذاك حرفتها.
قال أنت ابن السوداء الزنجية البذية قال إن كنت صدقت غفر الله لها وإن كنت كذبت غفر الله لك قال فأسلم النصراني[2]
هكذا علّمنا ائمتنا بأن نتعامل عمّا يقول الكافرون والمنافقون علينا ان نفكر كيف نعمل بفعل لا أن نعمل بردّة الفعل.
[واذكر عبدنا داوود ] لكي تُقنعهم أنّ هذه الافكار ليست صحيحة اذكر عبدنا داوود [ذا الأيد] صاحب القدرة[انه اواب] فمع وجود القدرة لديه الّا انه كان تواباً.
يسبحن بالعشي والاشراق:
البحث عن الولاية التكوينية للائمة يجري احياناً بين الناس و نحن نقول أنّها ثابتة لهم بل لبعض أصحابهم بل احياناً لتلاميذ تلاميذهم من العلماء الربانيين فكيف بالائمة الاطهار.
يقول تعالى
[إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ]
هي الجبال كانت مسخرة لداوود لا كما فسّر البعض أن رجالاً في الجبال كانوا مسخرين
[يسبّحن معه]
كانوا يسبحون و يصلّون مع داوود مساءاً وصباحاً.
وإنّما جاء بصيغة الفعل للتكرار.
لماذا كان التسبيح في الليل والنهار؟
أمّا الليل فلوجود هيبة ورهبة يشعر بها الانسان اذا حلّ الظلام وسكنت الاصوات ففي تلك اللحظة على الانسان ان يلتجئ الى الله ومن هنا كان وقت الغروب ساعة الغفلة ونُصلّي فيها صلاة الغفيلة، وكما البشر كذلك الجبال لأنّ كل المخلوقات لها شعور واحساس الذي هو غير العقل فحتّى الجبال تشعر بالخوف ولكي يزيل ذلك الخوف يتوجه الى الله تعالى.
اما النهار فمن الممكن ان يكون ضجيج النهار وابتهاجه تجعل الانسان او الطبيعة تغفل وهُنا ايضاً عليه ان يُسبّح الله تعالى.
ولذلك كان تسبيح الجبال مع داوود (ع) في العشي والاشراق.
[إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ]
فماذا معنى تسبيح الجبال والطيور؟ هذا ما سنتركه للبحث القادم ان شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تفسير القمي، ج1، ص: 206
[2] مناقب آل أبي طالب عليهم السلام (لابن شهرآشوب)، ج4، ص: 207
تدبرات المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس العاشر