
تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الحادي عشر)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ(19)
صدق الله العلي العظيم
على خُطى الأنبياء:
كما أنّ للسورة القرآنية بصائر نستخرجها بمعرفة الاطار العام للسورة كذلك لكل مجموعة من الآيات بصائرها الخاصة وهكذا في كل آية بل وفي كل كلمة من كلمات القرآن بصائر قرآنية.
وفي هذه العُجالة نستخرج عدّة بصائر بالتدبّر في مجموعة الآيات من سورة [ص].
البصيرة الأولى: أنّ الله سبحانه وتعالى يخاطب البشر قائلاً ايها الناس انّكم تستطيعون أن تكونوا مثل داوود أو على الاقل أن تسيروا على خُطى داوود وسليمان وحينئذ يكون لكم ملكاً حتّى على الجبال والطيور، فما الذي يمنع الانسان من أن يكون كذلك بالفعل، إنّه الشيطان الذي يوسوس للانسان انك لا تستطيع ان تكون مثل هؤلاء الصالحين.
قصّة الأعرج الشهيد:
لكنّ الواقع أنّ الانسان يستطيع بارادته أن يكون مثل الانبياء وفي هذا المجال يُروى أنّ رجلاً كان يُسمّى (عمروبن الجموح) وكان أعرج لكنّ ايمانه كان يدفعه أن يجاهد مع النبي (ص) وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي (ص) المشاهد أراد قومه أن يحبسوه وقالوا أنت رجل أعرج ولا حرج عليك وقد ذهب بنوك مع النبي (ص).
قال بخ يذهبون إلى الجنة وأجلس أنا عندكم فخرج ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود فأبى وجاء إلى رسول الله (ص) فقال يا رسول الله إن قومي يريدون أن يحبسوني هذا الوجه والخروج معك والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك فأبى فقال النبي (ص) لقومه وبنيه لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخلوا عنه فقتل يومئذ شهيد[1]
وهکذا نموذج آخر وهو جون مولى أبي ذر وكان عبدا أسود حين استأذن الامام للقتال في يوم عاشوراء فقال له (ع) أنت في إذن مني فإنما تبعتنا للعافية فلا تبتل بطريقنا.
فقال يا ابن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم والله إن ريحي لمنتن وحسبي للئيم ولوني لأسود فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ثم قاتل حتى قتل.
اذن هذه اوّل رسالة من مجموعة الآيات.
وكما قلنا سابقاً فمن الخطأ التفكير بأنّ اهل الآخرة لا يحصلون على شيء في الدنيا فهذه الفكرة ليست من محتوى الدين يقول تعالى :[ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] [2]
فمن الممكن أن يجمع الانسان بين الدنيا والآخرة.
الانبياء عباد الله:
البصيرة الثانية: في قوله تعالى [واذكر عبدنا]، إذ ما معنى استخدام كلمة العبودية هُنا؟ وفي الاجابة عن السؤال تفسيران.
اولاً:وهو ما قاله المُفسّرون بأن اعلى مرتبة للانسان في التكامل المعنوي والوصول الى مقام القُرب الالهي هو مقام العبودية لله، فحين يتكامل الانسان ويتسامى تتجلّى فيه معاني العبودية ولذلك نقرأ في التشهد [وأشهد أن محمداً عبده ورسوله].
ثانياً: القرآن الكريم كتاب التوحيد النقي من أي شائبة من الشرك وحين تُذكر مثل هذه القصص في القرآن حيث الجبال تُسبّح مع داوود والطير محشورة كل له أوّاب قد يخطر في ذهن البعض فكرة الشرك فيقول على سبيل المثال أنّ داوود هو ابن الله كما قالوا عن عزير أنّه ابن الله ولكي يُعالج القرآن هذه الاشكالية يُذكّرنا أن داوود كان عبداً لله فهو مع ما كان عليه من المقام الرفيع والمُلك الظاهر الّا أنّه لا زال ويبقى دائماً وابداً عبداً لله.
وذلك ممّا يستدعي التأمل في معرفتنا للائمة (عليهم السلام) صحيح أنّ كلّما نقوله بحقهم قليل عن مقامهم الحقيقي لكن علينا أن نعلم دائماً أنّهم عباد الله, فنحفظ دائماً الفاصلة بين الخالق والمخلوق.
تسبيح الجبال:
البصيرة الثالثة : قول ربنا [انا سخرنا الجبال معه]، ومعنى [معه] هو أن المسخّر الحقيقي للجبال هو الله فهو عزّ وجل المهيمن على كل شيء والكلمة هنا في منتهى البلاغة اذ لم يستخدم [له] للتدليل على ذلك المعنى الدقيق.
[يسبحن في العشي والاشراق]، تسبيح الجبال هو احد معاني الآية القرآنية التي تبين تسبيح كل شيء لله يقول ربّنا تعالى: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً][3]
وكما نقرأ في الدعاء: [ اللهم إليك عجت الأصوات بصنوف اللغات]
والتسبيح ذكر الله حيث أنّ الجبال والطيور بل وكلّ مخلوق محتاج الى الله في وجوده وكماله وأخذ هذا الاحتياج يكون من خلال تلك الرابطة التي بينه وبين الله يقول تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبيحَهُ وَاللَّهُ عَليمٌ بِما يَفْعَلُون].[4]
والصلاة يعني الدعاء بمعنى أنّ كلّ المخلوقات مفتقرة بذاتها الى الله سبحانه وهي بالصلاة والتسبيح تستمر في الوجود، فالشمس مثلاً لا يكون لها حرارة لولا أن الله يعطيها ذلك فهي مُعرضّة لفقدان حرارتها لتكون زمهريراً كما كانت في السابق فحّتى الشمس مفتقرة الى الله سبحانه وتعالى في وجودها وهكذا كل المخلوقات.
رسالة التسبيح:
وللتسبيح رسالة لكل انسان ايضاً وهو أن لا يغتر الانسان لو رأى شيئاً عظيماً من مخلوقات الله كالجبل الشامخ او الشمس المُشرقة او القمر المنير أو صناعة حديثة وماشابه لأنّ كل ذلك هو خلق الله فاذا رأيته قُل سبحان الله.
[والطير محشورة ]
الطيور منتشرة في الغالب باقسامها المختلفة لكنّ الله قد جمعها لداوود.
[كلّ له أواب]
رغم انتشار الطيور لمهمّات ربّما كانت تحملها الّا انها كانت تعود الى داوود بعد ذلك وهنا تأمل في كلمة [أوّاب] حيث تكرر مرتين.
المرّة الأولى في الآية 17 وكانت تعني أنّ داوود أواب لله سبحانه، فهل هُنا مرجع [له] لله ايضاً ام لداوود؟
في الجواب أنّ مرجع الضمير لداوود ويعني ذلك أنّ رجوع الناس الى القائد الربّاني والنبي المُرسل من عند الله مُكمّل للايمان بالله.
ومن يعصي القيادة الربّانية فإنّه كابن نوح يكون من الهالكين اذ أنّ ابن نوح لم يكن من الكافرين لكنّه عصى القيادة الربّانية المتمثلّة بالنبي نوح (ع) فكان من المُغرقين.
واليوم ايضاً لولا التفاف الناس حول العلماء الربانيين السائرين على خُطى اهل البيت (ع) لكانت المؤامرات التي حيكت ضد شعبنا في العراق بل والشيعة في كل مكان تنجح لكن وقوف المرجعيات الدينية والتفاف الناس حولهم اوقفت هذا المخطط الرهيب ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز.
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج20، ص: 130
[2] 32 الانعام
[3] الاسراء 44
[4] النور41
________________________________________
تدبرات المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس الحادي عشر.