Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثاني عشر)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثاني عشر)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24).

صدق الله العلي العظيم

 

 

وآتيناه الحكمة

ليس عبثاً او تسلية ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم، إنّما تُذكر هذه القصص لكي نقتدي بالانبياء ونستضيء بسيرتهم المباركة ونسير على خطاهم، ليس فقط نبينا الاكرم (صلى الله عليه وآله) بل وجميع الأنبياء العظام، لأنّ من عقيدتنا كمسلمين هو الايمان بجميع الانبياء السابقين ومن هؤلاء الأنبياء النبي داوود (عليه السلام).

لم تدع أيادي التحريف والزيف النبي داوود حتّى نالوا من سيرته العطرة، كما فعلوا بعد ذلك بسيرة نبينا الاكرم (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الاطهار(عليهم السلام).

فذكروا قصّة من نسج خيالهم حول علاقة بين النبي داوود (عليه السلام) وزوجة آريا الذي كان احد أصحابه، واتهموه في ذلك، ومع الأسف نجد هذه القصّة ذُكرت دون تمحيص في بعض التفاسير ايضاً.

وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من حدّثكم بحديث داوود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء) (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج‏4، ص: 81).

يذكر ربّنا عزوجل داوود ويقول: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).

حيث إنّه سبحانه وتعالى حين سخّر الجبال لداوود وجعل الطير محشورة معه وله أوّاب فهو بذلك اعطاه قدرة لم تكن لأيّ بشر ولكن بالاضافة الى تلك الصفات كان لداوود عطايا الهية اذ كان له: 1- الحكمة و  2- فصل الخطاب.

العلم ثمرة الحكمة

فماذا تعني الحكمة؟

كل شيء في الحياة لا بدّ وأن يكون له نبع وأصل، فالشمس مثلاً هي أصلٌ لكل الانوار، وهكذا للعلم أصل ووعاء ونبع، وأصله الحكمة.

فالحكمة خزينة العلم، وجاءت بصيغة اسم المصدر الذي يعني الأصل من الشيء كالوضوء.

ربّنا سبحانه وتعالى يقول: (رَبَّنا وابْعَثْ فيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ) (البقرة، 129).

فكما يعلّم الرسول (صلى الله عليه وآله) القرآن الذي هو الكتاب، يُعلّمهم ايضاً الحكمة، إذ يُنير قلوبهم فتنكشف الحقائق امامهم بوضوح.

وحتّى الحُكم لابدّ أن يكون نابعاً من الحكمة، ونحن ايضاً علينا أن نسعى للوصول الى معدن العلم، ولا يكفي أن نضيف معلومات دون استيعابها او امتلاك العلم الذي هو نور الهي يقذفه الله في قلب من يشاء. ذلك النور الذي يكشف المعلومات، ويُزيدنا ايماناً وعرفاناً ونوراً، وطريق ذلك – مُضافاً الى التفكير العميق – هو التوجّه الى الله سبحانه.

فربّنا عزّوجل حين أمرنا باتباع العلماء قال: (فَسْئلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل، 43).

وبهذه القيمة نستطيع ايضاً تمييز العلماء الربّانيين الذين نقتدي بهم عن غيرهم، إذ علينا أن نبحث عن اولئك العلماء الذاكرين لله والعارفين به، وهذه الصفة تُقدّم حتّى على العلم.

إذن علينا أن نسعى نحو امتلاك الحكمة التي هي معدن العلم.

 

فصل الخطاب

وماذا يعني فصل الخطاب؟

قد يتكلم إنسان نصف ساعة من الزمان دون أن يستفيد المستمع منه شيئاً، وقد يتكلّم شخص آخر مدّة قصيرة لكنّه يؤدي المغزى، فهو يمتلك فصل الخطاب.

ويعني أنّه يفصل بين الحق والباطل، كما نجد ذلك في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام).

 

احكم بيننا بالحق

حين يُبيّن الله قصة داوود عليه السلام فهو إنمّا يبين كيف صار داوود حكيماً، والقصّة هي أن داوود (عليه السلام) كان في محرابه وهو صاحب المُلك الظاهر والقيادة الالهية، وفي الاثناء نزل عليه رجلان من الجدار:

(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ)

فالسور يعني الجدار، والتسوّر هو الصعود من الجدار.

(إِذْ دَخَلُواْ عَلىَ‏ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنهْمْ  قَالُواْ لَا تَخَفْ)

صحيح أنّ الانبياء لا يخافون في تبليغ الدين، لكن في غير ذلك فُهم بشر قد تعتريهم حالة الخوف، وهُنا فزع داوود عليه السلام حين دخلوا عليه بتلك الطريقة، (قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ).

وبطبيعة أنّ الانبياء هم مع المستضعفين والمحرومين فإنّ داوود حكم سريعاً لمن كانت له نعجة واحدة: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلىَ‏ نِعَاجِهِ)، وبعد ذلك انتبه داوود أن المتخاصمين كانا ملكين وكان هذا امتحانا له: (وظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعًا وأَنَابَ).

وسُرعة حُكم النبي داوود (عليه السلام) هو الاشكال الذي وقع فيه، إذ إنّ داوود كان حاكماً بين الناس وكان عليه تحري الدقة في الحكم أكثر مما فعل، وحين انتبه الى ذلك (فاستغفر ربّه فخرّ راكعاً) حيث كان واقفاً فركع (واناب).

هناك عدة بصائر في هذه الآيات:

 

البصيرة الأولى: في قولهم لداوود (ولا تشطط) فماذا يعني؟ وما الفرق بينه وبين قوله تعالى (فاحكم بالحق)؟

بالتأمل في هذه الكلمة نجد أن لها معنى مختلفا، فإنّ للحق درجات وعلى الانسان أن يعمل وفقاً لواجبه وما أمره الله تعالى به.

صحيح أنّ عمل الخير والاحسان الى الناس حق، لكن ينبغي ان يكون ذلك في حدود المعقول، اذ لا يُعطي المرء كل امواله في سبيل الله او يوصي بكل امواله لاعمال الخير.

اكثر مشاكلنا في التاريخ كانت مع اولئك الذين لم يعرفوا الحق من امثال الخوارج او الخوارج الجدد حالياً، فيُحدثوا الدمار والفساد في الأرض.

 

البصيرة الثانية: عن قوله تعالى (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) إذ إن احد الرجلين كان ألحن من الآخر في كلامه، وينبغي أن نحذر من أن نجعل معيار الحقيقة عندنا القدرة على اقناع الآخرين.

فعلى سبيل المثال قد يحكم القاضي لصالح شخص ما في قضية لا حق له فيها بل لأنّه استطاع بلسانه اللبق واساليبه المختلفة ان يكسب الدعوى.

وعلى الانسان ان يفكر قبل كل شيء في محكمة ضميره وبالمحكمة الالهية الكبرى يوم القيامة، وهكذا علينا أن لا نُذعن للانسان بمجرّد كلامه الجميل وكلماته النامقة.

 

البصيرة الثالثة: في قوله تعالى: (وإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلىَ‏ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وقَلِيلٌ مَّا هُمْ).

على الانسان إمّا أن لا يكون له شريك، وإمّا اذا اختار الشراكة مع الآخرين أن يكون محسناً في التعامل معهم، فلا يُفكّر دائماً في ادقّ التفاصيل.

يقول القرآن الكريم ان الخلطاء (الشركاء) سواء كانوا ورثة او شركاء في التجارة يظلمون بعضهم بعضاً الّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين هُم بالطبع قلّة.

وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.


تدبرات المرجع الديني آية العظمى المدرسي في سورة (ص)

شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس الثاني عشر