
تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثالث عشر)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (26).
صدق الله العلي العظيم
أخطاء الانبياء حكمة واجتباء
جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال: لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم.
فقال له علي عليه السلام: وما هو؟
فکان ممّا قاله الزنديق في إدّعائه التناقض في آيات القرآن قوله:
وأجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله (وعصى آدم ربه فغوى)[1] وبتكذيبه نوحا لما قال: (إن ابني من أهلي) بقوله: (إنه ليس من أهلك)[2] وبوصفه إبراهيم بأنه عبد كوكباً مرة ومرة قمراً ومرة شمساً، وبقوله في يوسف عليه السلام: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)[3] وبتهجينه موسى حيث قال: (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني)[4] الى آخر الآية، وببعثه على داود عليه السلام جبرئيل وميكائيل حيث تسوّرا المحراب… إلى آخر القصة، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغاضباً مذنباً. فأظهر خطأ الأنبياء وزللهم.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في معرض الاجابة عليه:
(و أما هفوات الأنبياء عليهم السلام، وما بيَّنه الله في كتابه، ووقوع الكناية عن أسماء من اجترم أعظم مما اجترمته الأنبياء ممن شهد الكتاب بظلمهم، فإن ذلك من أدل الدلائل على حكمة الله عز وجل الباهرة وقدرته القاهرة وعزته الظاهرة، لأنه علم أنّ براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم، وأنّ منهم من يتخذ بعضهم إلهاً كالذي كان من النصارى في ابن مريم، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي تفرّد به عز وجل).[5]
وهكذا يميل البشر الى عبادة غير الله، والسقوط في هاوية الشرك، ومع وجود تلك الدواعي المُختلفة من القوّة والمُلك والكمال المادي والمعنوي كلُّ ذلك كان مدعاة لشرك العباد، وربّنا عزّوجل يمتحنهم احياناً بما يبيّن للناس أنّهم ليسوا بآلهة، بل هم عباد مكرمون، وذلك حين يُقلّل الرب المتعال من عصمتهم ليقعوا في ترك الأولى لهذا السبب.
وأضاف بعض العلماء أنّ ذات الحكمة تجلّت عند الائمة (عليهم السلام) في المصائب التي جرت عليهم، لئلّا يغالي فيهم الناس، ورغم ذلك نجد البعض يغالون في الائمة عليهم السلام.
وهذا هو التفسير الأول الذي اشار اليه امير المؤمنين عليه السلام في حديثه عن اخطاء الانبياء.
أما التفسير الثاني: حينما يذنب المؤمن يؤدي ذلك الى حالة من الحُزن بداخله، وحين تندمج هذه الحالة مع التوبة فإنّ الانسان يسمو، إذ يُفكّر أنّه هبط فيقفز الى مكان أبعد مما كان عليه.
و من هُنا نجد بعد ذكر الحوادث التي كان للانبياء فيه ترك الاولى نجد الاجتباء الالهي والاصطفاء الربّاني، فعند ذكر ذي النون (عليه السلام) يقول ربّنا:
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ)[6].
وسبب الاجتباء الذي كان لداوود هو أنّه فوراً: (اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعًا وأَنَابَ) ولم يأخذه العُجب بما هو في.
ينبغي أن نحذر وأن نُحدّث أنفسنا لعلاج حالة العُجب وخطورته أكثر حتّى من الذنوب، إذ قد يبتلي الله عبده المؤمن بذنب لكي لا يقع في العُجب.
قصّة الراهب والتائب
كان رجل يقطع الطريق يعيش في جزيرة ولم يدع حُرمة لله الّا وانتهكها، وبرحمة من الرب قد هدى الله الرجل بعد حادثة جرت بينه وبين امرأة، فقرر أن يتوب، فبينما هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشاب: ادع الله يظلنا بغمامة فقد حميت علينا الشمس. فقال الشاب ما أعلم أن لي عند ربي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً.
قال: فأدعو أنا وتؤمِّن أنت؟ قال: نعم. فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمِّن، فما كان بأسرع من أن أظلتهما غمامة فمشيا تحتها مليا من النهار.
وبالطبع فاكبر الظن أنّ الدعاء استجيب للراهب فالغيمة جاءت له، ولكن بعد حين
تفرقت الجادة جادتين فأخذ الشاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة. فإذا السحابة مع الشاب. فقال الراهب: أنت خير مني لك استجيب ولم يستجب لي .[7]
وهكذا كان درساً للراهب أن لا يُعجب بنفسه.
لأنّ الانسان بعد التوبة يسمو ويعرج الى العرفان الربّاني، ولكن ليس دائماً يُقرر الانسان التوبة، إذ ما ان يصدر من البشر الذنب حتّى يبدأ بتبرير الذنوب وتخطأة الآخرين أو ما شابه، وعلى العكس علينا أن نكون توابين.
وأحد أبعاد أنّ الانبياء كانوا قدوات لنا ولجميع الناس هو أنّهم كانوا يستغفرون من امور لا تعدو ان تكون تركاً للاولى.
النبي داوود (عليه السلام) (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ).
و كما قلنا ان تركه للاولى كان يتعلّق بسرعة حكمه بين الرجلين الذين كانا في الحقيقة ملكين، فسمع من احدهما ولم يسمع من الآخر بل حكم عليه، ولا صحة بتاتاً لِما ذُكِر من اتهامه بتعلقه بزوجة آريا ودفعه اياه لمقدمة الجيش ..الخ
وقد نُقلت قُصّة آريا للامام الرضا (عليه السلام) فضرب يده على جبهته قائلاً: «إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» لقد نسبتم نبيا من أنبياء اللّه عليهم السلام الى التهاون بصلاته، حتى خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل؟
فقال الراوي: يا ابن رسول اللّه فما كانت خطيئته؟
فقال: ويحك ان داود عليه السلام انما ظن انه ما خلق اللّه خلقا هو أعلم منه، فبعث اللّه عز وجل اليه الملكين فتسوّرا المحراب فقال : «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه، فقال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه، فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم، لا ما ذهبتم اليه. ألا تسمع اللّه عز وجل يقول: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ… إلى آخر الآية)[8].
(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) الفاء للتفريع من دون التراخي، اي انه استغفر في نفس اللحظة، (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب) أي رجع الى الله، وكانت عودة حقيقية اليه سبحانه.
(فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) ويعني ذلك صحّة ظنّه أنّه كان قد افتُتِن.
ثم يقول ربنا: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).
الزلفى هو القربى، اي انه كان من المقرّبين .
فالامتحان كان تربية ليتسامى داوود.
في العلوم الحديثة كثيراً ما يستندون على نظرية التجربة والخطأ، وأنّ المعرفة بالاساس تابعة لذلك، وهذه نقطة هامّة، فحينما يقع الانسان في خطأ او يُلدغ من جحر يتعلم لكي لا يُلدغ منه مرة اخرى .
إنّا جعلناك خليفة
وبعد الانابة التي كانت لداوود والعروج الذي وهبه الله اياه جعله الله خليفة في الارض فقال: (يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فىِ الْأَرْضِ فَاحْكُم بَينَْ النَّاسِ بِالحْقِّ).
يقول البعض أنّه ليس من الضروري اختيار الخليفة من قبل الله، ونقول: لا يستطيع بعضنا تعيين وصي لشخص آخر دون اذنه فكيف يصح أن يدّعي شخص خلافة الله دون أمر الله؟.
(فَاحْكُم بَينْ النَّاسِ بِالحْقّ).
لأنّ الانسان مدنيُّ الطبع ويتعايش مع غيره، فإنّ ذلك يتسبب في بروز خلافات بين الناس وبالتالي يؤدي الى نشوب صراعات ومشاكل .
أهم وظيفة كانت للقادة الربانيين من الانبياء او الائمة المعصومين (عليهم السلام) هو تقريب الناس بعضهم لبعض بالاخلاق الحسنة والتربية الصحيحة، وايضاً بالحكم فيما بينهم ليتجنوا المزيد من التعقيد والمشاكل.
نجد في العالم ان الاختلافات سبب في قتل ملايين الناس وتدمير بلدان باكملها، ففي الحرب العالمية الثانية بمفردها قُتل 60 مليون انسان.
و اليوم حين ننظر الى العالم الاسلامي نجد المسلمين يقتل بعضهم بعضاً وبدم بارد، وهذا بسبب الاختلافات، وهنا يأتي دور العلماء والحاكم العادل الذي يستطيع ان يُقرّب القلوب بعضها مع البعض ويجعلها في صفّ واحد.
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ( 8) طه: 121.
[2] ( 1) هود: 46.
[3] ( 2) يوسف: 24.
[4] ( 3) الأعراف: 143.
[5] – بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج90، ص: 98.
[6] النون 48-50
[7] الكافي (ط – الإسلامية)، ج2، ص: 70
[8] تفسير نور الثقلين ص 446
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تدبرات المرجع الديني آية العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس الثالث عشر