Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الخامس عشر)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الخامس عشر)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص، 27-28).

صدق الله العلي العظيم

 

ما خلقت هذا باطلاً

قلنا فيما سبق أنّ نظام الخليقة إنّما ابتُني على  الحق، وحين ينعكس الحق على الانسان تتجلّى فيه قيمة الهداية التي تعني الوصول الى ذلك الحق الذي يتجلّى في كل ابعاد الموجودات والمخلوقات.

ويعني ذلك أن الكون ليس باطلاً، فماذا يعني الباطل؟ وما هي العلاقة بين قوله تعالى: (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) في الآية السابقة وقوله عزّوجل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والْأَرْضَ ومَا بَيْنهَمَا بَاطِلًا)؟

وما هي العلاقة بين قوله تعالى: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) وقوله عزّوجل: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)؟

هذه المحاور نحاول الاجابة عنها بالتدبّر في الآيات المباركة من سورة (ص).

 

معنى الباطل

يقول ربنا سبحانه وتعالى:

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والْأَرْضَ ومَا بَيْنهَمَا بَاطِلًا).

المعنى الأوّل للباطل هو نفي الوجود، فبطلان الشيء هو نفي وجوده، لكن لا يُراد هذا المعنى هُنا، وإنّما المعنى الثاني الذي يعني انعدام الهدف منه.

فالوجود ثابت لكن ليس من دون هدف، بل هناك هدف وغاية جُعلت لهذه الخليقة.

في دعاء السمات الذي هو كنز المعارف الالهية كما سائر الادعية نقرأ هذه العبارة: (وانزجر لها العُمق الأكبر)

فالقسم بذلك الاسم الذي (انزجر له العمق الاكبر) الذي يعني آفاقاً من الوجود غير ذلك الذي نعرفه وهو شيء عظيم لا نعلمه.

العلم الحديث اليوم يكتشف بعض هذا العمق الاكبر اذ يقول أنّ في الكون ملايين المجرّات التي تحتوي على عدد هائل جداً من الشموس والنجوم والكواكب.

وكلّ تلك الكواكب والنجوم والشموس تجري وفق نظام كوني دقيق جعله الله ببالغ حكمته. يقول ربّنا تعالى:

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)  (الواقعة، 75-76).

والشمس لا تحيد عن المسار الذي قُدّر لها قيد انملة، وكما يقول تعالى:

(وَالشَّمْسُ تجَرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا  ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يس 38).

وهكذا القمر محكوم بنظام ربّاني مُحكم، يقول ربّنا تعالى:

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتىَ‏ عَادَ كاَلْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يس 39).

فلا اختلال في الكون ولا فوضى، يقول تعالى:

(لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ ولَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهارِ  وكلٌّ فىِ فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس40).

 

الهدف الأسمى للانسان

فهل كلُّ ذلك دون هدف، أو ان له هدف سامٍ وحين نعلم بأن هناك هدف سامٍ جعل الكون على اساسه، نتساءل ثانية فهل الانسان خارج عن تلك القاعدة؟ بمعنى أنّ الكون كلّه اذا كان وجوده لهدف سامٍ فهل يبقى الانسان دون هدف؟ بالطبع لا، إنّما يُفكّر في ذلك الهدف الذي خُلق من أجله لينتقل في تفكير سريع الى ذلك اليوم الذي تشخص فيه القلوب والأبصار، حينئذ يشعر بالتقصير تجاه ذلك الهدف فيبتهل الى الله أن يقيه عذاب النار، يقول تعالى:

(ويَتَفَكَّرُونَ فىِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران 191).

كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج في الليل ويُلقي نظرة الى السماء ثم يقرأ هذه الآية: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) فينتقل بتفكيره سريعاً  الى أنّ وجود الانسان كذلك له هدف، فيقول: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ومَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلْايمَنِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (آل عمران 191-193).

إنّ اكبر خزي واعظم عار هو السقوط في نار جهّنم امام كل البشر منذ آدم والى يوم القيامة، فليس هناك خزي أعظم من دخول النار.

وفي هذه الآية دلالة على الشفاعة أيضاً، إذ إنّ الاستجابة للمنادي هو الوسيلة لغفران الذنوب.

نعود للآية القرآنية. حين نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق السموات والأرض باطلاً كما يقول عزّوجل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً) فإننا نعلم أنّ هناك هدف، وبالتالي لا ننسى يوم الحساب. يقول ربنا في الآية 26: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ  بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحِسَاب) فلأن الله لم يخلق السماء والارض بالباطل فهما حق، فاذن هناك حساب.

ثم يشير ربّنا الى أنّ أولئك الذين نسوا يوم الحساب هم الكُفّار في حقيقتهم، فيقول: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّار).

يتخيل البشر أنّ الشمس ستغيب إذا  أغلق عينه، كما ويظن أنّ انكاره ليوم الحساب يُلقي عن كاهله المسؤولية، بينما العكس هو الصحيح، إذ إن بذلك الاعتقاد الفاسد يستحق هؤلاء عقابين الاول لكفرهم والثاني لاعمالهم الفاسدة، لأنّ الكُفر بذاته خطأ وما بعده ايضاً خطأ مضاعف.

ثم يقول ربّنا سبحانه بعد أن ثبت أنّ هناك حساب وهو حق وليس بباطل: (أَمْ نجَعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كاَلْمُفْسِدِينَ فىِ الْأَرْضِ أَمْ نجَعَلُ الْمُتَّقِينَ كاَلْفُجَّارِ).

كيف يكون ذلك؟!

 

البعوضة آية عظمة الخلقة

يقول أمير المؤمنين: (مسكين‏ ابن‏ آدم، مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقّة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة) (نهج البلاغة (لصبحي الصالح)، ص: 550).

فهذه البقّة الصغيرة التي ذُكرت في القرآن الكريم حين وضعوها تحت مجهر كبّرها بآلاف المرّات وجدوا أنّ لها  ثلاثة قلوب في جوفها بكل اقسامها، وستة سكاكين فى خرطومها، ولكل سكين وظيفتها، ومزودة بجهاز حرارى يُميّز الانسان عن غيره، ولها أيضاً جهاز تخدير وغير ذلك من العجائب.

فهل هذا الخلق العظيم دون هدف؟ كلّا بل لكل شيء هدف، وللانسان كذلك هدف ينبغي أن يعمل له ويبتهل الى الله دائماً ويقول :

(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَاذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار).
تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمي المدرسي في سورة (ص)

شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس الخامس عشر