Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السادس عشر)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السادس عشر)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ (ص 29).

صدق الله العلي العظيم

 

التدبر في القرآن سبيل الهداية

سياق الآيات القرآنية المباركة من بداية سورة (ص) والى الآية 28 ابتدأت ببيان أنّ الكُفّار وبسبب موقفهم المسبق ردّوا الآيات القرآنية والهداية الربّانية وانكروا كلّ حقائق الدين، ولذلك (قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ).

و في معرض ردّهم خاطب الرب نبيه الكريم أن (اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّاب).

اذكر داوود ذلك الانسان الذي وصل الى الكمال ثمّ يذكر 12 صفة من صفات داوود النبي (عليه السلام) فيما يذكر أيضاً قصّة حكمه المتسرّع بين الملكين لكي لا نغالي فيه.

بعد ذلك يذكر ربّنا قصّة سليمان (عليه السلام) الذي كان ابن داوود ووارثه في كل الجوانب، ولمعرفة الفرق بين القصّتين يذكِّرنا ربّنا بالتدبر في القرآن.

عدّة آيات في القرآن يذكر ربّنا فيها التدبّر في القرآن الكريم، احدى هذه الآيات في سورة (ص) وكما قُلنا فيما سبق إنّ التدّبر هو الجسر الموصل بين نور الوحي ونور العقل وهو الذي يكشف للانسان الحقائق ويفتح امامه آفاق المعرفة.

ربنا تعالى يقول: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ).

تحتوي الآية الشريفة على ستة مباحث:

اولاًقوله تعالى (كتاب)

ما هو الكتاب؟ الكتاب هو الشيء المنظم والثابت والذي نستطيع الاعتماد عليه.

وهو يشبه ديباجة الدستور الذي تستند عليه القوانين واللوائح المختلفة، والكتاب أيضاً هو كالقانون الثابت والذي هو مرجع غيره. ويُستفاد من ذلك أنّه ليس قابلاً للتغيير والتبدّل لأنّ الكتاب في التشريع كالسنن الالهية في التكوين.

فالقرآن الكريم بثبوته يعادل السنن الالهية، فالسنن في عالم التكوين والكتاب في عالم التشريع.

ثانياً: قوله تعالى (أنزلناه)

فهل يعني ذلك حركة وانتقال من مكان لآخر؟ وهل يحوي الرب مكان؟ فماذا يعني التنزيل اذن؟ وبالاساس فما معنى الاتجاهات المُختلفة مع ملاحظة كروية الأرض؟ فالاشارة الى الأسفل أيضاً تعني اشارة الى السماء.

المفهوم الصحيح لكلمة (انزلناه) هو أنّ أصل الكتاب ثابت في اللوح المحفوظ الذي كُتب فيه كلّ الحقائق، يقول ربّنا:

(وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ في‏ إِمامٍ مُبينٍ) (يس، 12).

لكنّ وعاءنا الصغير لا يحتمل تلك الحقائق المكتوبة في اللوح المحفوظ، فكان من رحمة الله أن جعل تلك الحقائق بصيغة يُمكننا فهمها:

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر17).

ولولا ذلك لما كان باستطاعة البشر الوصول الى معاني القرآن الكريم.

إذن المعنى: إنزاله من درجة الى درجة، ليس بالمعنى المكاني، بل بمعنى التوضيح والتبيين للناس .

ثالثاً: قوله تعالى (اليك)

لأنّ نزول القرآن كان على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو المُبيّن والمُفسّر له، وهو العالِم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، وهو التالي لآياته المباركات. يقول تعالى :

(كَما أَرْسَلْنا فيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا ويُزَكِّيكُمْ ويُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة، 151).

وحتّى توراة موسى التي كتبت على الالواح كان النبي يقرأها على الناس، فاذن ينبغي أن نعلم ان تنزيل القرآن كان على النبي (صلى الله عليه وآله).

رابعاً: في قوله تعالى ( مبارك)

قد تجد بِركة من الماء أو بئراً أو عيناً. أمّا البِركة فلا يزيد ماؤها، أمّا البئر فيزيد قليلاً، وأمّا العين فينبع ماؤها بغزارة. ذلك مثل القرآن، فهو عين الحياة الذي ينبع ماؤه بغزارة ليروي القلوب ويشع ضياءه باستمرار لينير الدرب.

فبالرغم من مرور اكثر من 1400 سنة، وبالرغم من وجود التفاسير والبحوث المختلفة عن القرآن، الّا أنّ ذلك لا يزال شيئا محدودا ممّا في القرآن من حقائق، لأنّ القرآن كالشمس يشرق كل يوم على افق جديد، ويعطينا بصائر عن الواقع الذي نعيشه، ولذلك كان من الجدير أن تُكتب التفاسير باستمرار، لأنّ القرآن يعالج الاشكاليات المُعاشة على أرض الواقع أيضاً، وهكذا ومع تجدد الاشكاليات تزداد الحاجة الى تفاسير متجددة.

و من معاني أنّ القرآن كتابٌ مبارك هو عدم حصر الآيات القرآنية في المعنى الذي وجده المُتدبِّر في مكان خاص وعصر معيّن.

فجاء في الحديث الشريف عن الامام الرضا عليه السلام حول القران:

“لأن الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة “. (بحار الانوار، ج92، ض15).

يقول الله سبحانه: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد، 17).

فكل انسان يحمل من القرآن بقدر وعائه، ويستفيد من ذلك النور بحجم استيعابه، وكما يقول أمير المؤمنين: (يا كميل إن هذه القلوب‏ أوعية فخيرها أوعاها) (بحار الانوار ج1ص189).

ونعرف من ذلك أيضاً أنّ معرفة المُحكم والمتشابه من آيات القرآن تختلف من شخص لآخر، فالائمة (عليهم السلام) مثلاً لا يوجد عندهم متشابه، وهكذا يختلف كل شخص لآخر في نسبة الآيات المُحكمة والمتشابهة.

خامساً: قوله تعالى (ليدّبروا آياته)

معنى التدبّر لغوياً من دُبُر الشّي‏ء: خلاف القُبُل، ويقال: دُبْرٌ ودُبُرٌ، وجمعه أَدْبَار، قال تعالى: (وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) (الانفال، 16)، وقال: (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأَدْبارَهُمْ) (الأنفال، 50). ودُبر الشيء هو آخره. فيكون معنى التدّبر: الحركة العلمية للوصول الى نهاية الشيء.

اذن التدبّر هو بمعنى الوصول الى آخر الشيء، فلا ننظر الى الظاهر انّما الى آخر الشيء. واللام في قوله (ليدّبروا) للعلّة، بمعنى أنّ الهدف من القرآن الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) هو التدبّر فيه.

قد يُقال: ذاك شأن العلماء أن يُفسِّروا القرآن والحال أنّنا نتكلم عن التدبّر لا عن التفسير.

وانا اوصي الشباب المؤمن دائماً أن يتدبّروا في القرآن ولو في كل يوم خمس دقائق في آية واحدة. إذ إنّ الآية الواحدة قد تُحدث نقلة نوعية عند الانسان.

سادساً: قوله تعالى  (لِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ)

حين يتدبّر الانسان فإنّ البصائر القرآنية تكشف أمامه آفاقاً من المعرفة، لكن ذلك لا يكفي إذ إن على الانسان تطبيق هذه الحقائق على نفسه.

وهذا معنى (التذكّر).

فقد تسمع بوفاة شخص فيحصل لك علم بذلك، لكن حين تُفكّر بحقيقة الموت وأنّ الذي أصابه يُصيبك ايضاً يكون معنى التذكر.

فالتدبّر اذن هو فهم الحقائق، والتذكّر هو هضم هذه الحقيقة ووعيها حتّى يكون جزءاً من الانسان.

ثمّ يبين ربّنا أنّ الجميع لا يصلون الى هذه المرحلة إنّما اولو الالباب هم مَنْ يصلون الى هذه المرتبة، وهم الذين يصلون الى جوهر الامور.

بصائر في التدبر

الكلمة اولاً:  

بالرغم من ان اللغة العربية أشمل وأدق واجمل اللغات في انها تعطي لكل حقيقة لفظاً قريباً يتناسب معها تماماً، وبالرغم من ان العرب اختاروا لكل تطور ينشأ في شيء، لفظاً يخصه، ويوحي الى تلك الحقيقة متلبسة بذلك التطور.

ولكننا إبتعدنا عن الفاظ القرآن الكريم، وعلينا لمعرفة معاني كلمات القرآن أن نعود الى جذور الكلمة، وذلك من خلال الآيات القرآنية ذاتها.

فكلمة الحفظ مثلاً استخدمت في القرآن مرّات عديدة. يقول ربنا تعالى:

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى‏ وقُومُوا لِلَّهِ قانِتينَ) (القرة 238).

ويقول عزّوجل: (وَالَّذينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) (المؤمنون، 9).

ونستطيع أن نعرف المعنى الدقيق للكلمة عند التأمل في السياق التالي:

(أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ(12) قَالَ إِنىِّ لَيَحْزُنُنىِ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وأَنتُمْ عَنْهُ غَفِلُونَ(13) (يوسف، 12-13).

فيوسف طفل يحتاج الى حماية، وفي الأرض ذئاب تفترس، والاخوان الاكبر يزعمون انهم يصونونه من هذا الخطر، فالحفظ هو صيانة ما هو ذات قيمة من التعرّض للخطر.

فنعرف أن صلاتنا ايضاً علينا أن نحافظ عليها ونحرسها من الذئاب الذين هم الشياطين الذين يحاولون جاهدين أن يسرقوها.

فكلّ كلمة علينا أن نسعى في معرفة موارد استعمالها في القرآن او مشابهاتها، اذ القرآن يوضح بعضه بعضاً.

السياق ثانياً:   

لو بحثنا عن أول يوم تعلمنا فيه اللغة، لعرفنا ان السياق كان أول سبيل لهذا التعلم، فالوالد استعمل لفظ العصى عندما كان يتكلم عن الضرب، فعرفنا أنه وسيلة الضرب. والوالدة أطلقت لفظة الولاعة حينما تكلمت عن الطبخ، فعرفنا أنها وسيلة لإشعال النار.و..و..

ولا ريب ان وجود اللفظ في اطاره المتـناسب يوحـي بمعناه ربما اكثر من تفسير اللفظ بدون سياق يحده.

والقرآن الحكيم ذلك الكتاب البليغ الذي يناسب بين المفردات في اطار السيـاق بحيث يصعب عليك تبديل لفظـة باخرى دون ان تضـر بتناسب الكلمات.

لذلك يهدينا السياق ذاته الى المعاني الدقيقة للكلمات لأنها وضعت في موقع متناسب جداً مع تلك المعاني، فإذا أردنا ان نعرف بالدقة معنى اللفظ كان علينا مراجعة ما قبلها وما بعدها، لمعرفة ما يتناسب معهما من معنى لهذه الكلمة.

التطبيق الخارجي ثالثاً:

المرحلة الثالثة هو تطبيق الآية على الواقع الخارجي حيث يُعطي للانسان آفاقاً من المعرفة ايضاً.

و كما في الحديث الشريف عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: (إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم، ونبأ ما يكون بعدكم، وفصل ما بينكم) (البرهان في تفسير القرآن، ج‏1، ص: 48).

 

تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)

شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس السادس عشر