
تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السابع عشر)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ(29) وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30)
صدق الله العلي العظيم
القرآن بصيرة:
من الاهداف السامية للقرآن المجيد هو التذّكر كما ذُكر في اول سورة [ص] ايضاً في قوله تعالى: [ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ] ص 1
وبالرغم من أنّ التذكرة يبدو أمراً بسيطاً الّا أنّ الواقع بأنّ الانسان بحاجة الى ارادة عظيمة للوصول الى التذّكر ولذلك يقول ربّنا [وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ]
اولئك العقلاء الذين يصلون الى عمق الحقائق اولئك يصلون الى التذكّر.
فما هو التذكر؟ وماهو تأثيره على حياة الانسان؟
قبل كل شيء لابدّ من بيان مقدّمة وهي أن في افعال الانسان كثيراً ما يصعب عليه تجنّب جريمة ومعصية مُعيّنة فتراه ما إن امتنع عن تلك المعصية حتّى يسقط فيها مرّة اخرى وهكذا يتوب ولكنّه يعود لماذا؟
الجواب على ذلك أن الانسان كما الشجرة التي لها جذور واغصان وثمار كذلك الانسان له هذه الابعاد الثلاثة أمّا الجذور فهي رؤاه وبصائره في الحياة وامّا الاغصان فاخلاقه وأمّا الثمار فعمله.
يقول ربّنا تعالى: [أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ] ابراهيم24
وكذلك قوله تعالى: [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً] الأعراف58
فالأرض الطيّبة تُنبت ثمار صالحة والقلب السليم يُثمر عملاً صالحاً والعكس صحيح حيث يقول عزّوجل: [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ] ابراهيم26
صحيح أنّ عمل الانسان يرتبط بارادته لكنّه يتأثر في الكثير من الاحيان باخلاقه وعاداته فلو رأيت شخصين يمرّون بحادثة ولكن تختلف ردّة فعلهم تجاه تلك الحادثة فذلك نابع من أنّ سلوكيات كلٌ منهما مرتبطة باخلاقه وسيرته ولكلٍ منهما اخلاقه الخاصّة.
اذن لا يمكن اعتدال السلوك الّا بعد اقتلاع جذور الفساد من قلب الانسان من الحقد والحرص والتكبر والحسد و..الخ وذلك أيضاً بدوره مرتبط ببصيرة الانسان تجاه الحقائق المُختلفة ممّا يعني أن تصحيح الرؤية وامتلاك البصيرة هو الأرضية لتصحيح سلوكيات الانسان.
على سبيل المثال لو أراد الانسان الامتناع عن المال الحرام لابدّ له من قلع جذور الحرص من قلبه ومن دون ذلك يكون اقلاعه وقتياً ومن هنا نجد الدين الاسلامي تحدّث طويلاً عن الاخلاق وكيفية معالجة امراض القلب لأنّ الأعمال إنّما تكون صالحة بصلاح الأخلاق.
ونحن اذ نستقبل ليالي القدر المباركات علينا أن نُصحح الجذور لا الثمار والاسس لا المظاهر لكي لا نبني على الرمل فعلينا تصحيح الاخلاق.
مثال آخر ربنا تعالى يقول: [يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ]الحجرات 11
كثير من الناس مُبتلى بهذه الامراض الخطيرة يقرر الاقلاع عنها لكنّه يعود اليها ذلك لأنّه لم يقلع جذور الفساد .
اذن على الانسان الرامي نحو تصحيح سلوكه أن يطهّر قلبه ويمتلك الاخلاق الايمانية لكن كيف؟
هنا نصل الى الرؤية والبصيرة للحقائق.
فالانسان الذي يريد أن يخُرج الحرص من قلبه عليه أن يعرف الدنيا وكيف أنّه سيرتحل عنها,بذهابه الى المقابر والمستشفيات يرى حقيقة الدنيا فتنفذ بصيرته حتّى يصل الى قول أمير المؤمنين (ع): [يا دنيا يا دنيا إليك عني أبي تعرضت أم إلي تشوقت لا حان حينك هيهات غري غيري لا حاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير وخطرك يسير وأملك حقير آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد] نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 480
وبتصحيح الرؤية نُقتلع جذر الحرص من قلوبنا وهكذا حين نُصحح رؤيتنا تجاه الآخرين
حين نقرأ قوله تعالى: [يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ] الحجرات 13
وحين نقرأ حديث النبي (ص) الذي يقول: […الناس من عهد آدم الى يومنا هذا مثل أسنان المشط لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى] الغارات (ط – الحديثة)، ج2، ص: 823
فكلّما ترسخت هذه الرؤية في قلب الانسان اكثر كلّما استطاع التخلّص من هذه المفاسد.
اذن ثلاثة مراحل للتكامل تبدأ من اصلاح الرؤية ثم الاخلاق وانتهاءاً بالعمل.
القرآن بصيرة:
يُعطي القرآن الكريم للمتدّبر بصيرة ورؤية.
صحيح أنّ في القرآن آيات كثيرة تتحدث عن الاخلاق لكن الاساس في القرآن و روحه يُعطي للانسان بصيرة ورؤية.
وفي ليالي القدر الذي نزل فيه روح القدس بالقرآن ويتنزّل ايضاً كل سنة فإنّ أهم ما يمكن للانسان الوصول اليه بتوفيق الله هو أن يمتلك بصيرة نافذة وعقيدة راسخة لأنّ بذلك تتغير الثقافة والاخلاق وبالتالي سلوك الانسان.
ونحن نقرأ في زيارة المولى اباالفضل العباس (ع)[اشهد انك مضيت على بصيرة من امرك]
علينا التفكير مليّاً كيف يمكن الوصول الى تلك البصيرة لا أن نفكّر بأنّ الامر ينتهي بحضور المجالس بل هنا تكون البداية.
كيف نصل للقلب السليم؟
ذلك يكون حينما يكون للانسان رؤية صحيحة وإنّما يمتلك الانسان هذه البصيرة من خلال القرآن يقول ربّنا تعالى: [ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ]
إذ أنّ المتدبر في القرآن يحصل على تلك النورانية التي تحوّل حياته الى حياة طيّبة كما هي حياة داوود وسليمان الذين ذُكروا قبل وبعد هذه الآية المباركة.
وكذلك جاءت هذه الآية بين قصتين حتّى لا يفكّر الانسان أنّ هذه مجرّد قصص عابرة بل عليه أن يعتبر بها ويستوعب دروسها.
ووهبنا لداوود سليمان
معاني كثيرة من هذه الآية القرآنية.
إذ أنّ نعمة الاولاد الصالحين نعمة عظيمة وهبها الله لداوود فهناك من الاولاد من يكون عذاباً على والديه وعلى الانسان أن يطلب من الله أن يرزقه الولد الصالح.
هذه كانت هبة من الله لداوود ونسفتيد من ذلك أنّ سليمان مع ما كان عليه كان إحدى النعم التي انعم الله بها على داوود.
الجهاد في سبيل الله:
كان داوود (ع) راعياً يرعى اغنامه في ناحية اذ مرّ عليه اصحاب طالوت فسأل عنهم فقالوا أنّهم يذهبون للجهاد في سبيل الله.
وكان داوود في ذلك الوقت شابّا صغير السن وشجاعا في جيش طالوت. ولا تبيّن الآية كيفيّة قتل ذلك الملك الجبّار بيد داود الشاب اليافع، ولكن كما تقدّم في شرح هذه القصّة أنّ داود كان ماهرا في قذف الحجارة بالقلّاب حيث وضع في قلّابه حجرا أو اثنين و رماه بقوّة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدّة فصرعه في الوقت، فتسرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت.
لكن الله سبحانه وتعالى قد وهب لداوود تلك العطايا الكثيرة بسبب اندفاعه للجهاد في سبيل الله يقول الله تعالى: ]هَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاء] البقرة 251
ثم يصف ربنا سبحانه وتعالى سليمان بأنّه كان.
1- نعم العبد: فكانت له مرتبة سامية في عبودية الله, ومن هنا كان على كل انسان يبحث عن التكامل ان يسعى نحو تكامل عبوديته لله تعالى.
2- [انّه اوّاب]لأنّه وصل الى درجة الاوابين التي تعني العودة والرجوع الى الله كما ذُكر معناها سابقاً.
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس السابع عشر