Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثاني)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثاني)

 


IMG_0194

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ص  والْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ(1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فىِ عِزَّةٍ وشِقَاقٍ(2)

كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ ولَاتَ حِينَ مَنَاصٍ(3)

 

في عزّة وشقاق

ممّا يدعونا الى المزيد من التدبّر في الآيات الاولى من سورة (ص) المباركة هي أن هذه الآيات – كما في بدايات اغلب السور الطوال- تُلخّص ما في السورة من بصائر وخصائص وكذلك في خواتيمها، ومن هنا كان على المتدبر أن يولي اهتماماً اكبر للتدبر في الآيات الاولى والأخيرة من هذه السورة المباركة.

و نجد هُنا في مقدمة السورة البحث عن العزة والشقاق، فماذا يعني ذلك؟

بالرغم من وجود ذلك المعين الزُلال الذي يُطهّر القلوب، ذلك الكتاب الذي هو حياة القلوب بيننا، الّا ان الكثيرين تراهم يبتعدون عنه فيكونون في احدى حالتين فهم امّا يتصورون بكفاية ما هم فيه وما يمتلكونه [العزّة] أو ينحرفون عن الطريق القويم [الشقاق].

البشر بين التطلّع والتسافل

نعيش نحن البشر بين قوّتين احداهما تدفعنا نحو تغيير ما نحن فيه والأخرى تدعونا الى الركون والبقاء على ما نحن عليه.

وتكمن أهمية البُعد الاول في التطلع نحو التقدم اساساً، اذ لولا ذلك لكان البشر يعيش في الكهوف الى الابد، إذ أنّه لا يشعر بأي حاجة أو رغبة للانتقال الى ما هو أفضل، لكن البُعد الثاني الذي هو البُعد الحيواني للانسان يدفعه للبقاء على ما هو عليه.

تأمّل في نفسك وفكّر لماذا تسعى للحصول على سيارة افضل؟ او بيت اوسع؟ او عمل انسب؟ ..الخ وتجد في نفسك جهة ثانية أنك تفكّر بابقاء الوضع الحالي دون تغيير.

ووجود هذين القوتين داخل الانسان لا تلبث الّا ان تخرج الى الواقع الخارجي فتؤخذ على اساسها المواقف، خصوصاً داخل العائلة والمجتمع الصغير، ومع تقادم الأيام تأخذ هاتان القوتان صبغة جديدة حين تتحولان الى تيارين متناقضين في المجتمع بصورة عامّة، فقسم يرضون بالواقع الموجود وقسم آخر يريد التغيير نحو الافضل.

حينما جاء الانبياء أرادوا بيان هذه الحقيقة للناس بقولهم أيها الناس ليست حياتكم التي تعيشونها بتلك الحياة المثالية.. فلماذا تعيشون تحت ظلّ الطاغوت، والى متى يتحكم فيكم طبقة من المترفين؟ والى متى تعيشون عباداً لشهواتكم؟ أو ان يكون التخلف بكل ابعاده منتشراً بينكم؟

جاءوا ليقولوا للناس ايها الناس لا تكونوا عباداً لغيركم وقد خلقكم الله احرارا، جاءوا ليحيوا ذلك التطلع نحو التقدم والسمو والتكامل، ذلك الأمل نحو العيش الأفضل.

لكن يبقى هنالك قسم من الناس يدافعون عن عاداتهم وتقاليدهم وما كان عليه آباؤهم ليبقوا على ما هم عليه ولا يرضون بالتغيير.

قريش والعزّة بالاثم

فعلى سبيل المثال قريش مع ما كانوا فيه من التخلّف والصراعات الدامية بينهم وحتّى ان البعض كانوا يطوفون بالبيت عُراة وكان ذلك مما اعلن عن منعه امير المؤمنين (ع) حين نزلت سورة براءة.

كان لكل قبيلة صنم يختص بها، فأيّ حياة تلك حتّى جاء الاسلام وهدم الاصنام وجعل كلمة التوحيد ليكون توحيد الكلمة، ذلك لان تطبيق لا اله الّا الله ينتهي الى توحيد الكلمة والتمحور حول ذلك الخالق العظيم ونبذ كل الاصنام.

لكنهم رغم كل ما كانوا يعيشونه  لم يكونوا ليرضوا بالتغيير الذي جاء به النبي (ص) إنمّا كانوا يُحبّذون الوضع الرديء الذي كانوا يعيشونه.

لنخشى من العزّة

لا ينحصر الأمر في الماضي فحسب وعلى المشركين فقط، بل رُبّما يبتلى كل واحد منّا ايضاً بداء العزة حتّى وان كان ذلك في امور ثانوية، ففي الكثير من الاوقات يقترح علينا البعض اموراً حسنة لكن لا نرضى بها ونتمسك بما نحن فيه او ما كان عليه اباؤنا وذلك خطأ كبير اذ إن علينا البحث عن الافضل دائماً وكما في مضمون الحديث الشريف: اذا رأيت الناس قد أقبلوا على كثرة العمل فاقبـِـل على صفوة العمل.

وهُنا نصل الى المعنى الدقيق للعزة التي تعني البقاء على ما هو عليه سواء كان فيما يرتبط بالماديّات او المعنويات من الامور الاخلاقية وغيرها.

ألا نفكّر لماذا لا تسموا اخلاقنا كل عام؟ أليس من تساوى يوماه فهو مغبون؟ ألسنا نقرأ في الدعاء[اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير].

الشقاق

لا يعني الشقاق عدم موافقة الناس بشكل مطلق كما لا يعني موافقتهم بشكل مطلق، إنمّا علينا التفريق بين منطق: حشرٌ مع الناس عيد، واتباع الناس في كلّ ما ذهبوا اليه، وبين أن يكون البحث عن المؤمنين واتباعهم فيما اجتمعوا عليه. وهذا مما ورد في مضامين الاحاديث المباركة وهو قول الله تعالى:

(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ) (119التوبة)

ويُقصد من الشقاق هو مخالفة القسم الثاني من الناس.

اذن على الانسان أن يتجاوز العزة والشقاق لكي يصل الى عين الحياة النقية الذي هو القرآن الكريم.

كيف نتخلص من العزّة والشقاق

و هنا يُطرح السؤال ما الذي فعله الانبياء في مواجهة العزّة والشقاق الموجودين عند الناس؟ وبالتالي كيف يمكن لنا أن نتخلّص من هذين الحجابين الذين يحجباننا عن الحقيقة؟ نجد الاجابة في الاية الثالثة  وعلينا لكي  نفهمها بصورة اعمق ان نقدم لها ما يلي:

كلّ ما يفعله الانسان في الحياة فهو يفعله إمّا لجلب منفعة أو لدفع ضرر، والثاني اولى من الاوّل، فلو خُيّرت بين  أن تشتري شيئاً تنتفع به أو شراء دواء تُسكّن به ألما تحس به  فلا شك تختار الثاني.

يقول عزوجل :

[كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ ولَاتَ حِينَ مَنَاصٍ]

فليعلم من يريد البقاء على ما هو عليه أنّه لا يمكنه الوقوف امام سنن الله، والدليل على ذلك والبرهان القاطع هو الماضي، فكم من قرية اخذتهم العزّة بالاثم وكانوا ذو قوة ومال، فهذه عاد ارم ذات العماد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وذاك فرعون ذو الاوتاد، أي مصير كان لهم؟ وان لكم ذات المصير اذا سلكتم ذات المسير.

علينا أن لا نغتر بما لدينا فلنذهب الى المقابر والمستشفيات ولنفكر في التاريخ بل والحاضر ممن حولنا ولنعتبر ان لا نعتز بما لدينا فالغرور والعُجب لا يقاوم امر الله:

[كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ]

كم، للمبالغة. والقرن من المقارنة، اي شيئين قرين لبعضهما البعض، وهو ما يُسمّى  اليوم (جيل) حيث ان جيلا كاملا ابيد.

[فَنَادَواْ ولَاتَ حِينَ مَنَاصٍ]

حيث انه لم يكن الهلاك وهم في غفلة عمّا يملكون او في غير جهوزية واستعداد بل كانوا قائمين ويدركون كل شيء ولكنهم لا يمكنهم الوقوف امام امر الله.

و قد مضى وقت فرارهم او توبتهم، بمعنى انه كان بامكانهم سابقاً أن يتوبوا وذلك بالتضرع الى الله والالتجاء اليه.

ولكي نتخلص من العزّة والشقاق والغرور علينا ان نعود الى التاريخ ونتأمله للنظر الى الذين هلكوا مع ما كانوا يملكون من مقومات البقاء، ذلك لأنهم كانوا يستطيعون الاستغفار لكنهم لم يفعلوا ولات حين مناص.

بصائر:

بالرغم من وجود ذلك المعين الزُلال الذي يُطهّر القلوب، ذلك الكتاب الذي هو حياة القلوب بيننا الّا ان الكثيرين تراهم يبتعدون عنه. وعلى الانسان أن يتجاوز  العزة والشقاق لكي يصل الى عين الحياة النقية الذي هو القرآن الكريم.

ولكي نتخلص من العزّة والشقاق علينا ان نعود الى التاريخ  ونتأمله لنأخذ منه الدروس والبصائر.

وصل اللهم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

 

 

تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد المدرسي دام ظله

في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس الثاني