تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الواحد والعشرون)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تّحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلىِ الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ(45)
صدالله العلي العظيم
أيوب عليه السلام مثال الصبر
هناك من يسأل: كيف يستطيع الانسان أن ينال مرتبة الصبر مثل أيّوب عليه السلام؟
علينا في سبيل ذلك معرفة أنّ الصبر والشكر توأمان لا يفترقان، كما في قوله تعالى:
(إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (لقمان، 31).
وكما نقرأ في ادعية شهر رجب:
(اللهم إنّي اسألك صبر الشاكرين لك).
اذن الصبر والشكر توأمان، لكن لماذا؟ وكيف؟
في الحقيقة ان الشكر اساس الصبر، ويعني الشكر أن ينظر الانسان الى الامور برؤية ايجابية، فمن الناس من لا يتوقع إلّا الشر، ولا ينظر إلّا الى المفقود، ويُفكّر دائماً في سلبيات الواقع، فمثل هؤلاء لا يملك قيمة الشكر التي تعني أن ينظر الانسان الى ماضيه وحاضره ومستقبله بنظرة ايجابية سليمة.
على سبيل المثال هناك من يخرج من بيته وهو يظنّ بأنّ حدثاً ما سيصيبه، بينما يخرج غيره بالاعتماد على الله والتوكل عليه متفائلاً بيومه. والعجيب أنّ كلا النظرتين تتحقق في الغالب، فمن يتوقع لنفسه الخير فإنّه سيجد الخير والعكس صحيح أيضاً.
لأنّ في الكون قوى غيبية يرتبط بها الانسان بخير او بشر، ومن هنا قيل: (تفاءلوا بالخير تجدوه).
فلا بأس إذن أن يتفاءل الانسان، ولكن عليه أن يحذر من التشاؤم، وكما قال امير المؤمنين عليه السلام: ( تفاءلوا ولا تطيروا) (شرح نهج البلاغة، ج19، ص374).
و يعني التطير التشاؤم، ومنشؤه يكون حين ينسى الفرد ذكر الله، ومن هنا كان كفّارة الطيرة التوكل كما في الحديث عن ابي عبد الله عليه السلام حيث قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كفارة الطيرة التوكل) (الكافي، ج8، ص198).
وهُنا اوصي الشباب بأنكم اذا امتلكتم حالة الرهبة من مستقبلكم فاذكروا ماضيكم وكيف أنّ الله أنعم عليكم في كل محطّات الحياة الماضية ودرأ عنكم آلاف الاخطار التي كانت تدور حولكم، وإله الماضي هو إله المُستقبل، بل وحتّى بعد الموت، فهو ربّ الآخرة والاولى، والمؤمن يتوكّل على الله ولا يهاب المستقبل وحتّى الموت.
بالمقابل فالمتشائم تراه يموت كل يوم لأنّه يرهب من الموت، والحال أنّ الموت لا يأتي إلّا مرّة واحدة، يقول تعالى:(وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وسَنَجْزِي الشَّاكِرينَ) (آل عمران، 145).
من جهة اخرة فالتفاؤل والرؤية الايجابية تتلاءم مع النعم الالهية، وحتّى لو فقد الانسان نعمة فإنّه يُفكّر في سائر النعم التي يملكها، وبالتالي يكون صابراً غير مكترث بفقده لهذه النعمة، ويُفكّر أيضاً أن فقده للنعمة قد يكون في مصلحته، وكما نقرأ في دعاء الافتتاح: (ولعلّ الذي ابطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور). والامر الثالث هو أنّ الصابر ينفذ ببصيرته الى يوم القيامة، ويقيس الشر الذي هو فيه بنار جهنم فيصغر في عينه.
فصبر الانسان اذن نابع من شكره.
جزع الشيطان
جاء في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن فضّال، عن عبد الله بن بحر، عن ابن مشكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا لاي علّة كانت؟
قال: «لنعمة أنعم اللّه عزّ وجلّ عليه بها في الدنيا وأدى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس عن دون العرش، فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيوب عليه السلام حسده إبليس، فقال: يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة الا لما أعطيته في الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدى شكر نعمة أبدا. فقيل له: قد سلطتك على ماله وولده، قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا الا أعطبه فازداد أيوب لله شكرا وحمدا، قال: فسلِطني على زرعه يا رب، قال: قد فعلت، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكرا وحمدا، فقال: يا رب سلطني على غنمه فسلطه على غنمه فأهلكها، فازداد أيوب لله شكرا وحمدا، فقال: يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه الى قدمه، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره حتى وقع في بدنه الدود، فكانت تخرج من بدنه فيردها فيقول لها ارجعي الى موضعك الذي خلقك الله منه، ونتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية وألقوه في المزبلة خارج القرية، وكانت امرأته رحمة بنت يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات اللّه عليهم وعليها، تتصدق من الناس وتأتيه بما تجده.
قال: فلما طال عليه البلاء ورأى إبليس صبره أتى أصحابا لأيوب كانوا رهبانا في الجبال «و قال لهم: مرّوا بنا الى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته، فركبوا بغالا شهبا وجاؤوا، فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه، فنظر بعضهم الى بعض ثم مشوا اليه وكان فيهم شابّ حدث السن فقعدوا اليه فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله كان يهلكنا إذا سألناه، وما نرى ابتلاك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره؟ فقال أيوب عليه السلام:
«وعزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاما الا ويتيم أو ضعيف يأكل معي، وما عرض لي أمران كلاهما طاعة لله إلا أخذت بأشدهما على بدني، فقال الشاب: سوأة لكم، عيرتم نبي اللّه حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها؟» (بحار الانوار، ج12، ص343).
فتألم أيوب عليه السلام لذلك، حيث رأى أقرب الناس إليه يشككون في عبادته. تقول الرواية: «فأنزل اللّه عز وجل عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان وأطرأ، وأنبت الله عليه روضة خضراء وردّ عليه أهله وماله وولده وزرعه، وقعد معه الملك يحدثه ويونسه، فأقبلت امرأته معها الكسرة (و هي القطعة من الخبز اليابس) فلما انتهت الى الموضع إذا الموضع متغير وإذا رجلان جالسان، فبكت وصاحت وقالت: يا أيوب ما دهاك؟ فناداها أيوب، فأقبلت فلما رأته وقد رد اللّه عليه بدنه ونعمه سجدت لله عز وجل شكرا، فرأى ذؤابتها مقطوعة، وذلك أنها سألت قوما أن يعطوها ما تحمله الى أيوب عليه السلام من الطعام، وكانت حسنة الذوائب، فقالوا لها: تبيعينا ذؤابتك هذه حتى نعطيك؟
فقطعتها ودفعتها إليهم، وأخذت منهم طعاما لأيوب، فلما رآها مقطعة الشعر غضب وحلف عليها أن يضربها مأة، فأخبرته انه كان سببه كيت وكيت، فاغتم أيوب من ذلك فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: «خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ» فأخذ عدقا مشتملا على مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه».
وعلينا أن نتخذ من قصّة ايوب درساً لنا في الصبر.
بعد ذلك يذكّرنا القرآن الكريم بثلاثة انبياء وهم ابراهيم واسحاق ويعقوب ابن اسحاق، يقول تعالى:
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ أُوْلىِ الْأَيْدِى والْأَبْصَرِ).
وللتذكُّر معنيان: فقد يكون التذكير لشخص المخاطب، وقد يكون ليخاطب به الآخرين.
ومعنى (اولي الايد والابصار) أي اولي القدرة والعلم إذ إن اليد تعبير عن القدرة والبصر هو وسيلة النظر، فالمعنى أنّ هؤلاء الانبياء كانوا قد وصلوا الى منتهى القوة والعلم (لأنّ حذف المتعلق يفيد العموم).
والكلام عن الآية بتفصيل أكثر وعن بيان العلاقة بين الآية وبين الآيات الاولى من سورة (ص) التي كانت محور السورة نتركه للدرس القادم ان شاء الله.
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس الواحد والعشرون