تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثاني والعشرون)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدي والْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) واذْكُرْ إِسْماعيلَ والْيَسَعَ وذَا الْكِفْلِ وكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
صدق الله العلي العظيم
من بديع القرآن الكريم وبلاغته، ان الاية الواحدة فيه قد تختزل مضامين سورة كاملة، ومن ذلك تفصيل الرب الاجابة على شبهةٍ طرحها المشركون على رسول الله وذكرتها الايات الأولى في هذه السورة حيث قال سبحانه: (وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ * اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[1]، فمنذ بيان هذه الشبهة، أمر الله نبيه بالصبر، وتلى ذلك ذكر قصص الانبياء من داود وسليمان، ومروراً بأيوب، وانتهاءً بهذه الايات الشريفة التي تذكر انبياء الله ابراهيم وابنه اسحاق وحفيده يعقوب، ومن ثم الانبياء اسماعيل واليسع وذا الكفل، عليهم جميعاً سلام الله.
ولكن ما هي الحكمة في هذا التفصيل في الاجابة على شبهة المشركين؟
الحكمة في ذلك، ان الشبهة لم تكن محصورة بالمشركين في زمن النبي الاكرم، صلى الله عليه واله، بل هي شبهة تخطر على قلب كل كافرٍ من البشر، فبناء الانسان الداخلي يتشابه مع نظيره كما يتشابه البناء الظاهري له، فـ (الناس الى ادم شرعٌ سواء) كما يروى عن الامام علي عليه السلام. (بحار الانوار، ج1، ص82).
ومن هذه الجهة يعتبر المرء بالماضين، ويكون عبرةً للآتين.
طلب الكافرون من النبي، صلى الله عليه واله، ان يأتي بما يعدهم من عذابٍ وجحيم قبل يوم الحساب. وفي معرض الاجابة عن طلبهم هذا، يأمر الله سبحانه نبيه بالصبر ويذكر عباده داود وسليمان وايوب، حتى تصل النوبة الى النبي ابراهيم وذريته:
(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدي والْأَبْصارِ)
والامر بالذكر في قوله تعالى (اذكر) يعني التذكر من جهة وتذكير الناس به من جهة ثانية، فأولاً على النبي ان يستذكر هؤلاء الانبياء في نفسه، وأن يذكر للناس سيرتهم وتضحياتهم في سبيل الحق.
( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)
خاض المفسرون في بحوث تحوم حول هذه الاية، ولكن يبدو لي انهم لم يؤدوا حقها، ففي كل كلمة منها بحث هام، فما معنى (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) وما المراد بكلمة (بِخالِصَةٍ) وما يعني (ذِكْرَى الدَّارِ)؟
اولاً: استخلاص الرب
اذا دخل الواحد منا مدينةً كبيرة لأول مرة، ولم يزر الا حياً من احيائها، وحكم من خلال ذلك على المدينة باجمعها، فسيكون حكمه باطلاً لا محالة، ومن يسلك جزءاً من طريق طويل فيصدر حكماً عليه دونما يصل الى غايته ومنتهاه، لا يمكن ان يكون حكمه صائباً.
هكذا هو من يرى الدنيا، فهو يرى جزءاً من الحقيقة وليس كلها، اذ الاخرة تكمل الدنيا ويشكلان معاً الحقيقة، ومن غفل عن الاخرة، فستكون كل احكامه باطلة بالنسبة الى الدنيا، وذلك لوجود الترابط الدقيق بين الدنيا والاخرة، فحينما لا يعي الانسان ان الدنيا مزرعة الاخرة، فانه بجهله بوجود يومٍ للحصاد سيغفل عن هدفية الدنيا وضرورة الزراعة فيها، فهؤلاء (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُون)[2]، (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ في شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُون)[3].
وفي مقابل هذه النظرة، تأتي النظرة الشمولية، التي تشكل الدنيا جزءاً منها، فيلقي المرء ببصره على الاخرة، ويعي انها امتدادٌ حقيقي لما يجري هنا، وقد كان من دعاء الامام زين العابدين عليه السلام، اذا دُفع عنه ما يحذر، او عجّل له مطلبه: “اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حُسْنِ قَضَائِكَ، وبِمَا صَرَفْتَ عَنِّي مِنْ بَلَائِكَ، فَلَا تَجْعَلْ حَظِّي مِنْ رَحْمَتِكَ مَا عَجَّلْتَ لِي مِنْ عَافِيَتِكَ فَأَكُونَ قَدْ شَقِيتُ بِمَا أَحْبَبْتُ وسَعِدَ غَيْرِي بِمَا كَرِهْتُ”.
“وإِنْ يَكُنْ مَا ظَلِلْتُ فِيهِ أَوْ بِتُّ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْعَافِيَةِ بَيْنَ يَدَيْ بَلَاءٍ لَا يَنْقَطِعُ ووِزْرٍ لَا يَرْتَفِعُ فَقَدِّمْ لِي مَا أَخَّرْتَ، وأَخِّرْ عَنِّي مَا قَدَّمْتَ. فَغَيْرُ كَثِيرٍ مَا عَاقِبَتُهُ الْفَنَاءُ، وغَيْرُ قَلِيلٍ مَا عَاقِبَتُهُ الْبَقَاءُ، وصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ”[4].
فما يدوم – وان كان قليلاً – خيرٌ من الزائل وان كان كثيراً. وانا نجد ان اكثر الناس يتعاملون مع الدنيا على طبق هذه الحقيقة، فلو خيّر الواحد بين مبيت ليلة في افخم جناح في افضل فندق، او ان يحصل على شقة متواضعة بصورة دائمة، فإنه سيختار الثاني دونما شك، فإن كانت هذه الحقيقة تنطبق على الامور الجزئية في الدنيا فهي من باب اولى تنطبق على الدنيا بما هي دنيا، فهي زائلة لا محالة، اما الاخرة فهي الحيوان الدائم الأبدي.
نعم؛ لا يعني اهتمام المؤمن بالاخرة غفلته عن الدنيا، بل لابد ان يتعامل معها على انها هي المزرعة للاخرة.
في كتابه عن انماط التربية، يرى احد الملاحدة ان اسلوب المتدينين (بأي دين) في تربية ابنائهم، يتمحور حول جعل الاخرة حقيقة يأخذها الابناء في نظر اعتبارهم دوماً، ثم يعقب بالقول (ان كان هناك اخرة، فهذا الفعل هو الحق).
وهذه الرؤية، لا تقتصر على الصغار فحسب، بل على الكبار ايضاً ان يزدادوا بصيرةً ووعياً بالنسبة الى الاخرة، خطوة تلو الاخرى، حتى يصل الواحد الى مرتبة اليقين، كما حصل ذلك مع حارثة، لنستمع معاً الى حواره مع رسول الله، صلى الله عليه واله عن لسان الامام الصادق، عليه السلام:
(إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله، صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ فَنَظَرَ إِلَى شَابٍّ فِي الْمَسْجِدِ وهُوَ يَخْفِقُ، ويَهْوِي بِرَأْسِهِ مُصْفَرٌّ لَوْنُهُ وقَدْ نَحِفَ جِسْمُهُ وغَارَتْ عَيْنَاهُ فِي رَأْسِهِ ولَصِقَ جِلْدُهُ بِعَظْمِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟
فَقَالَ: أَصْبَحْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُوقِناً.
فَعَجِبَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ وقَالَ لَهُ: إِنَّ لِكُلِّ يَقِينٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ يَقِينِكَ؟[5]
فَقَالَ: إِنَّ يَقِينِي يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَحْزَنَنِي وأَسْهَرَ لَيْلِي وأَظْمَأَ هَوَاجِرِي، فَعَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي قَدْ نُصِبَ لِلْحِسَابِ وحُشِرَ الْخَلَائِقُ لِذَلِكَ وأَنَا فِيهِمْ، وكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا ويَتَعَارَفُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئِينَ، وكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ فِيهَا مُعَذَّبُونَ ويَصْطَرِخُونَ، وكَأَنِّي أَسْمَعُ الْآنَ زَفِيرَ النَّارِ يَدُورُ فِي مَسَامِعِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله: هَذَا عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فِي الْإِيمَانِ. ثُمَّ قَالَ: الْزَمْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ .
فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ: ادْعُ اللَّهَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُرْزَقَ الشَّهَادَةَ مَعَكَ.
قَالَ فَدَعَا لَهُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه واله فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ وكَانَ هُوَ الْعَاشِر)[6].
ان اصل هذه الحالة – حالة اليقين- عطاء الله سبحانه وتعالى، ولكن على الانسان ان يدعو الله ويتضرع اليه، علّ الرب يتلطف عليه ويكشف عن قلبه الحجب التي تمنع من رؤية الحقائق.
والكشف قد يكون كشفاً عن الحجب كلها وبشكل دائم، وقد يكون كشفاً عن جانبٍ من الحجب لفترة وجيزة، فيتلذذ الانسان ببرد اليقين في تلك اللحظات ويعيش القرب من الله سبحانه.
يقول الله عن هؤلاء الانبياء: (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ).
صيغة الجمع في قوله سبحانه (إِنَّا)، و(أخْلَصْناهُمْ) كلها تفيد التأكيد على وقوع هذا الامر.
اي ان استخلاص الرب لهم كان بشكل كامل، لم تشُبْه اية شائبة او درن، ولكن بماذا كان ذلك؟ (بِخالِصَةٍ) بمعنى: وهبنا لهم خلوصاً لا نظير له، خلوصاً كاملاً وشاملاً، والسبب في ذلك كان: (ذِكْرَى الدَّارِ) أي: ذكرهم الدائم للدار، اي دار الاخرة، كما في قوله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ولا فَساداً والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين)[7].
فاخلاص الانبياء (ابراهيم، واسحق، ويعقوب) عليهم السلام، كان:
اولاً: عطاءً الهياً.
ثانياً: كاملاً وشاملاً.
ثالثاً: ناشئاً من كثرة ذكرهم لدار الاخرة.
( وإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ)
لهؤلاء الانبياء مكانة خاصة عند الله سبحانه وتعالى، فهم عند الله مصطفَون، وهم عند الله من الأخيار، وذلك يعني انهم مصطفون واخيار ظاهراً وباطناً.
وكلمة الاخيار، قد تكون جمعاً للـ (خير) في مقابل (شر)، وقد تكون جمعاً لكلمة (خيّر) في مقابل (شرير)، ويبدو ان الثاني هو المراد في هذه الاية.
(وَاذْكُرْ إِسْماعيلَ والْيَسَعَ وذَا الْكِفْلِ وكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)
يأمر الرب نبيه، صلى الله عليه واله، باستذكار انبياء اخرين، والتذكير بهم، وهم اسماعيل عليه السلام، الذي اختلف في كونه ابن ابراهيم ام شخص اخر، واليسع، النبي الذي قلّ ذكره في القرآن الكريم، وذا الكفل الذي يحتمل كونه زكريا كافل انبياء بني اسرائيل او انه يوشع.
ولكن السؤال: لماذا لم يلحق هؤلاء الاخيار بالذكر بإبراهيم وذريته، عليهم جميعاً سلام الله؟
ان الله لم يذكرهم جميعاً معاً، لأن هناك تفاضل في مستوى الانبياء، فليسوا جميعاً سواء في الفضل والمكانة، كما انهم لم يكونوا سواءً في التضحية في سبيل الله، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْض..)[8].
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الاية 16 و17
[2] – سورة الروم: الاية 7
[3] ‑ سورة النمل : الاية 66
[4] – الصحيفة السجادية : ص 89-90
[5] اي ان لكل يقين علامة، فما هي علامة يقينك؟
[6] مشكاة الانوار في غرر الاخبار : ص 14
[7] سورة القصص: الاية 83
[8] – سورة البقرة : الاية 253.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس الثاني والعشرون