Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الخامس والعشرون)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الخامس والعشرون)

 


بسم الله الرحمن الرحيم

 

[وَقالُوا ما لَنا لا نَرى‏ رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا الْعَزيزُ الْغَفَّارُ (66).]

صدق الله العلي العظيم

 

من أفضل التعاليم التي جاءت به الشرائع الالهية للانسانية ، ومنها شريعة الاسلام عبر القرآن الكريم، استقلالية الانسان، بأن يعرف الانسان نفسه على انه مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى، خلقه الله حراً، فينبغي عليه ان لا يتحول الى عبدٍ لغيره، لمخالفة ذلك مع اصل الخلقة والفطرة.

ان هذا الامر – اي تحرر الانسان-  لغاية سامية لا تتحصل الا عبر سلوك طريق طويل، فلابد من التحرر من اغلال العبودية للمال والجاه، والأهل والتاريخ، والسلف، و.. فلابد ان يتخلص الانسان منها جميعاً لكي يستطيع بعدها ان يكون حراً من المخلوقات، ويتسامى الى مستوى العبودية لله عزوجل.

اكرم الله الانسان بالخلقة وجعله سيد المخلوقات قائلاً (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني‏ آدَمَ)[1]،  ورفعه الى مستوى العبودية له، هذا المقام السامي يفتخر به المؤمنون، ويجعلونه وساماً على صدورهم، فهذا رسول الله، صلى الله عليه واله، اعظم خلق الله قاطبة، يشهد له المسلمون يومياً في صلواتهم انه، صلى الله عليه واله، عبدٌ لله، قائلين: (اشهد ان محمداً عبده ورسوله)، مقدمين العبودية على الرسالة .. ومن بعده امير المؤمنين عليه السلام الذي يقول: (إِلَهِي كَفَى لِي عِزّاً أَنْ أَكُونَ‏ لَكَ‏ عَبْداً وكَفَى بِي فَخْراً أَنْ تَكُونَ لِي رَبّا)[2].

فعلى هذا الانسان ان يحافظ على هذا المستوى، ولا يتسافل الى ان يكون عبداً خانعاً لاصحاب الثروة والسلطة.

ومن خلال تلاوة هذه المجموعة من الايات يتضح لنا الترابط بينها، الذي قد تبدو في الوهلة الاولى لا تترابط ببعضها البعض:

اولاً: التخاصمات الدائرة عند اهل جهنم، بين الطغاة وبين تابعيهم الذين عبدوهم عبادةً عملية في الحياة.

ثانياً:  بيان دور النبي الاكرم صلى الله عليه واله في مسألة التوحيد، فما هو بإله يُعبد من دون الله، بل هو نذيرٌ، وواسطة للفيض الالهي. وبالرغم من ان توحيد الله وعبادته لابد ان تكون عبر النبي، الا ان النبوة تبقى طريقاً الى التوحيد، ويجب عدم الخلط بينهما.

تخاصم اهل النار

بعد دخول الفوج التالي الى مكان الطغاة وتبادل كلمات عدم الترحيب بينهما، يتهم التابعون الطغاةَ بأنهم كانوا السبب في ظلالهم وبالتالي وصولهم الى بئس القرار، في حين ان الطغاة يبرئون انفسهم من هذه التهم.

حينذاك يدعون ربهم بأن يضاعف عذاب المسبِّب في ضلالهم، ويبدو – من خلال ايات اخرى- ان هذا هو الدعاء الوحيد الذي يُستجاب لأهل النار، حيث يضاعف الله سبحانه العذاب على الطغاة  (قالَ لِكُلٍّ ضِعْف‏)[3]، ولكن لا نعلم كيفية مضاعفة عذاب بعضهم وهم جميعاً في مكان واحد، فقد تكون المضاعفة من خلال التضييق او تشديد لدغ الحيات ولسع العقارب، او قد يكون عبر تسليط الاتباع على اسيادهم.

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى‏ رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ * أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ)

ومن جملة مخاصماتهم؛ انهم يتساءَلون فيما بينهم – وهم في حالة العذاب والشدة- عن سبب عدم رؤية أناسٍ كانوا يعدونهم من الاشرار، هل لأنهم اتخذوهم سخرياً في الدنيا، فكانت النتيجة انهم (الرجال) يعذبون في اماكن بعيدة وزوايا مغمورة؟ ام السبب يرجع الى زيغ ابصارهم بسبب النار والحرارة و…

ترى؛ مَن هؤلاء، وعن مَن يبحثون؟

عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: إنّ أهل النّار يقولون: ما لَنا لا نَرى‏ رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. يعنونكم [و يطلبونكم. لا، واللّه،]  لا يرونكم في النّار. لا يرون واللّه واحدا منكم في النّار[4].

من البصائر التي نستفيدها من هذه الاية:

ان على الانسان ان لا يفكر في مكانته عند الناس، ورأيهم فيه، بل عليه ان يفكر في مكانته عند الله سبحانه وتعالى، وعند المعصومين، فذاك الذي يرفع الانسان ويضعه، لا رأي الناس.

فالاية تريد ان تحرر الانسان من تفكيره في قول الناس فيه، بأن يكون متحرراً من ذلك كل التحرر، ليكون قادراً في التحرك وفق القيم التي يؤمن بها.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)

ذلك التخاصم هو حقيقة موجودة، وليس مجرد تهويلات وتخويفات لا اصل لها.

ونستفيد من الاية اموراً:

الاول: ما يحدث في دار الدنيا ينعكس على الآخرة، فالخلافات الواقعة بين الناس هنا تتجلى هناك، ولا يفر احدٌ بعمله ابداً، فيخرج الله المتخاصمين من بين مليارات البشر ليحكم بينهم بالحق.

الثاني: على المؤمن بالاخرة وبوجود يومٍ يؤخذ حقه من الظلمة، ان يصبر في الدنيا على الاذى قليلاً، وان يتحمل البلاء الذي يصل اليه من اعدائه، بأن لا يجزع، فهذه المشاكل الموجودة هنا ستكون في الاخرة، ولكن بالعكس حيث يتسلط المظلوم على ظالمه.

الثالث: يبقى الحقُ حقاً، سواء اعترف الناس به في الدينا واذعنوا له ام لم يفعلوا، وان لم يفعلوا ذلك فسيضطرون الى قبوله راغمين، في يوم القيامة.

الرابع: على الانسان ان لا يكون عبداً للطغاة والظلمة، كما عليه ان لا يعبد الصالحين بل وحتى الانبياء، فالانبياء هم رسل الله وليسوا شركاءه في الخلقة والتدبير، ومن هنا انتقل سياق الايات الى هذا الامر قائلاً:

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ  * رَبُّ السَّماواتِ والْأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا الْعَزيزُ الْغَفَّارُ)

يعلن النبي انه منذر، ولا اله الا الله، فما معنى الاله؟

الاله: هو الذي يأله اليه الخلق حين تعسر الحاجات، وانقطاع السبل، فيجأرون اليه بصنوف اللغات فيستجيب لهم، سبحانه.

وهو واحد: بمعنى الفرد الذي لا شبيه له ولا ثاني له، فهو احدٌ من كل الجهات.

وهو قهار: دليله انه قهر كل شيء، بالفعل: (قهر عباده بالموت والفناء).

ومزيدٌ من التعريف بالاله الواحد القهار: انه رب السماوت والارض وما بينهما، من طيور، وغازات محيطة بالارض، وهواء، وملائكة، ومما لا نعرفه من اصناف الخلقة وبديع الصنع.

وهو عزيزٌ لا يقهره شيء، لظهور اثار قدرته وايات ملكه. ولكن لا يعني ذلك ان يأخذ اهل الارض بالوان العذاب لبروز المعاصي والمخالفات منهم، لأنه سبحانه (غفار) لا يعجل العقوبة والعذاب على مستحقيه، فسبحان الله (العزيز الغفار).

وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  سورة الاسراء: الاية 70

[2] الخصال: ج2، ص 420

[3]  سورة الاعراف: الاية 38

[4] تفسير كنز الدقائق : ج1: ص 258

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)

شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس الخامس والعشرون