Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السابع والعشرون)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السابع والعشرون)

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‏ فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ (74) قالَ يا إِبْليسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني‏ مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتي‏ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ (78) 

صدق الله العلي العظيم

 

ابليس والقياس

يتكوّن الطين من مادتي الماء والتراب، ففيه عناصر الماء وخصائص التراب، وبالتالي يحوي ما يحويه الماء والتراب من ابعاد، ولذلك كان شيئاً له شرافته، وكانت خلقة الانسان من الطين نعمة الهية عظيمة؛ فلو كان الانسان مخلوقاً من النار، لكان له بعدٌ واحد ليس الا، ولكنه حيث خُلِق من الطين تعددت ابعاده وحالاته وخصائصه.

وكان الخطأ الاكبر لابليس أنه قاس نفسه بآدم، عليه السلام، وجعل مادته (النار) افضل من مادة ادم (الطين)، وبقياسه الخاطئ عصى ربه، ومن هنا فان القياس يعد اكبر مشكلة علمية لكشف الحقائق، حتى حرّم الشارع المقدس أن يقيس احدٌ شيئاً من احكام الدين، إذ (إنّ السنة إذا قيست محق الدين) كما يقول الامام الصادق عليه السلام[1].

والامر الاخر الذي غفل عنه ابليس حين القياس، ان ادم لم يكن مجرد طين، بل نفخ الله فيه من روحه، ولذا كان اشرف من ابليس الخالي من هذه الخاصية.

والامر الثالث ان ابليس يعترف بأنه مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى، والله هو الذي خلق ادم ايضاً وامر بالسجود لادم، فلا يجوز له ان يعصي لله امراً.

ولكن السؤال الاساس هنا، ترى ما هي الحكمة من خلقة الانسان؟ ولماذا كان للانسان هذا المقام السامي بين المخلوقات الالهية؟

ان معرفة هذه الحقيقة تهم كل فرد من البشر، وذلك لكي لا يرى الانسان انه مخلوقٌ حقير فيبيع نفسه بثمن بخس للطغاة والمتسلطين.

ولبيان هذا الامر لابد من التمهيد بمقدمات ثلاث:

الاولى: ان الله سبحانه  قد اعطى لكل المخلوقات مقداراً من الشعور بحسبه، فلكل شيء من حولنا شعور، ولكن بحدودٍ وانواع مختلفة. اذ انا نجد الايات القرآنية تحدثنا عن خطاب الله سبحانه للجمادات والحيوانات، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعين‏)[2]، وقال سبحانه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولا)[3]، وقال عز من قائل: (أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبيحَهُ وَاللَّهُ عَليمٌ بِما يَفْعَلُون‏)[4]..  و الكثير من الايات الاخرى.

وبمقدار ما يمتلكون من شعور، يمتحنهم الله سبحانه ويكلفهم بتكاليف.

الثانية: ما بيد البشر من علوم ومعارف تعتمد على التجارب والحس، وهذا حال اكثر العلوم اليوم، فحتى العلوم الانسانية نحت المناحي التجريبية والاختبارات. وللتجربة هدفان، الاول: الوصول الى الحقيقة المرادة، والثاني: التحول فيما نجرب به او نجربه.

الثالثة: ان الله سبحانه خلق الكثير من المخلوقات .. مليارات الشموس والافلاك والنجوم، وملايين العوالم، وملايين الانواع من الاحياء، و…

واراد فوق كل ذلك ان يخلق خلقاً يكون الافضل والاشرف، فبم يكون كذلك؟

الارادة هدف الخلقة

يكون التشريف بخلق مخلوق يمتلك الارادة الحرة، التي تختص بالله سبحانه وتعالى، فيخلق الله خلقاً يفوض اليه شيئاً من ارادته ومشيئته.

البشر ليس الهاً، ولكنه الاقرب الى الله سبحانه من بين سائر المخلوقات، وكما في الحديث القدسي : (عبدي أطعني تكن‏ مثلي‏، تقول للشي‏ء: كن، فيكون‏)[5].

وهب الله الارادة للانسان، ثم بين له طريقي الكمال والتسافل، ومن ثم أمره بارتقاء هذا الطريق ليكون في اعلى عليين.

وهذا كان هدف الخلقة، الذي لم يفهمه ابليس فحمله على الطغيان.

[إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ]

كلمة (اذ) تعني الامر بالتذكر والتذكير، فلأن سياق السورة يتمحور حول الايمان بالله ورسوله وكتبه، فلابد من التذكير دوماً بالحقائق.

ولكن لماذا ورد قول (ربك) بصيغة المخاطب، اوليس الله هو رب كل شيء؟

بلى؛ ولكن ورد ذلك بصيغة المخاطب لأن القرآن الكريم خطابٌ مباشر للنبي، صلى الله عليه واله، ومن خلال النبي يكون خطاباً للاخرين بطريقة غير مباشرة.

وقول الله سبحانه للملائكة لم يكن بداعي المشورة – كما ذكرنا – بل للدلالة على ان علم المخلوقات بالحقائق – ومنهم الملائكة- لا يكون الا من عند الله سبحانه وتعالى.

[إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طينٍ]

وردت الكلمة (خالق) بصيغة اسم الفاعل، لمزيد من التأكيد على حدوث هذا الامر بالفعل، وانه لا مجال للتراجع فيه.

والبشر من البَشَرة، ولكن هذا البشر بهي الخلقة مخلوق من طين، مع وجود التفاوت الكبير بين ظاهره وظاهر الطين.

[ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‏ فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ ]

وذلك باتمام الخلقة، والكلمة (سويته) من التسوية، ويستفاد منها، ان البشر يمتلك جسماً يعد من افضل الاجسام في الاحياء كلها.

نعم، السجود بعد اكمال الخلقة، ولكن ليس بصورة مباشرة، بل يكون ذلك بعد النفخ فيه من روح الله، فلو كان السجود قبل نفخ الروح، لكان سجوداً للمادة، وبذلك صار سجوداً لما هو فوق المادة.

فما معنى الروح، الذي تكرر ذكره في الكثير من ايات القرآن الكريم، كسورة القدر (الآية4): (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ). وسورة الشورى (الآية 52) في قوله تعالى: (وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)، وسورة الاسراء (الآية 85): (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)؟

ليس المراد من الروح في الاستعمال القرآني، هو ما نقصده نحن في استعمالنا لهذه الكلمة. فحين نستعمل هذه الكلمة ونعني بها نفس الانسان.

ولكن يبدو ان المراد من الروح في هذه الايات هو روح القدس، وهو اعظم مخلوق لله سبحانه، وهو اعظم حتى من الملائكة، بل ان الملائكة تؤيد بالروح.

ويبدو ان الروح مخلوقٌ مرتبط بالله ارتباطاً مباشراً من دون واسطة، وهو النور الذي يعطيه الله سبحانه لملائكته وانبيائه واوصياء نبيه، وهو نفسه الذي سيكون الامام الحجة عجل الله فرجه الشريف مؤيَّداً به.

وسجد الملائكة، لكن لا للطين، بل لذلك الروح الذي نفخ فيه، ويظهر من بعض النصوص، ان سجودهم كان لوجود الانوار الخمسة المباركة في صلب ادم عليه السلام.

ولم يكن سجودهم بعد حين، بل كان مباشرةً بعد نفخ الروح، لمكان الفاء في الاية، فهي فاء التفريع، وهي تعني تتابع الشيء للشيء مباشرة ودون فاصلة.

[فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ]

الجمع المُحلّى بالالف واللام يفيد العموم.

و (كلهم) تفيد الامر نفسه (العموم).

و (اجمعون) ايضاً يراد منها العموم.

عمومات ثلاث وردت في الاية، لتدل على ان الملائكة لم يشذّ منهم شاذ في السجود لادم عليه السلام.

[إِلاَّ إِبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ]

لم يكن ابليس من الملائكة ولكنه لعبادته ارتقى فصار معهم، ولكنه سقط في هذا الامتحان الالهي، حيث استكبر وباستكباره كان من الكافرين.

فالاستكبار والكفر في مرتبة واحدة.

[قالَ يا إِبْليسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالينَ]

لم يعجل الله العذاب على ابليس الذي عصى الامر المباشر واستكبر على الله سبحانه وتعالى، بل اتم عليه الحجة وخاطبه، وسائله عن سبب عدم سجوده لما خلق بيديه، وذلك كناية عن اتقان الصنع، وكبير اهتمام الله بهذا المخلوق.

هل كان السبب هو استكبارك على الامر الالهي، رغم معرفتك بضعفك وعجزك وفقرك؟

ام السبب هو انك تظن في نفسك انك من العالين؟

[قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني‏ مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ]

اجاب ابليس – وبكل وقاحة- انه بالفعل خيرٌ من ادم، بالنظر الى مادة الخلقة، كما اشرنا سابقاً.

 [ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجيمٌ *  وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتي‏ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ *]

بهذه الكلمة، امر الله بطرده من جناب رحمته، واعلن غضبه بلعنه المستمر الى يوم القيامة، الذي يتبعه العذاب الاليم للشيطان الرجيم.

وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

– الكافي، ج1، ص 57.[1]

[2] – سورة فصلت : الاية 11

[3]  سورة الاحزاب : الاية 72

[4]  سورة النور: الاية 41

[5] دلائل الصدق لنهج الحق: ج5، ص 181

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)

شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس السابع والعشرون