Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثامن والعشرون-الاخير)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثامن والعشرون-الاخير)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْني‏ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرينَ (80) إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ والْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمينَ (87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حينٍ (88).   

صدق الله العلي العظيم

 

ملخص ما جاءت به السورة المباركة من بصائر يعاد ايرادها بصورة مجملة وبعبارات موجزة في نهاية السورة، وهو ما ذكّرت به السورة من حقائق ترتبط بالوحي والرسالة الالهية.

الا ان ما نستفيده من هذه المنظومة من الايات التي اختتمت بها السورة الكريمة، حكمة وجود ابليس، ذلك الذي كان من الجن فتمرد على الأمر الالهي بعد ان كان من العابدين المقربين. ترى ما الذي حصل حتى اعطاه الله فرصة التسلط على رقاب بني آدم؟

 

حوارٌ بين الرب وابليس

بعد أن اعطى الله سبحانه الفرصة لإبليس – الى يوم الوقت المعلوم – راح ابليس يحدث الرب ويقول انه سيُضِلُّ بني ادم كلهم ويهديهم الى جهنم، ولكن الله سبحانه قال انه يغفر للتائبين، قبل موتهم بسنة، بل قبلها بشهر، باسبوع، بيوم، قبل ان تصل الروح الى الترقوة، ثم قال الله سبحانه لإبليس إنه سوف يغفر للانسان اذا تاب الى ربه توبة نصوحا.

وبالفعل، فقد اعطى الله الانسان فرصاً كثيرة للتوبة والأوبة، حتى منح الانسان فرصة اخيرة يسميها الناس بـ ( صحوة الموت)، يستعيد فيها المريض وعيه، حتى يظن اهله انه عوفي من مرضه، ولكنها الفرصة الاخيرة للتوبة والايصاء.

فلسفة الابتلاء

ذكرنا سابقاً ان التقدم المادي للانسان مبني على التجربة والاختبارات، حيث يريد البشر تنظيم العلوم جميعاً على وفق هذا المبنى.

وهذا الامر صحيح في بُعدٍ من أبعاده، وهو صادق علينا ايضاً، بأن نعرف انفسنا ونرى مكانتها، ومن ثم نصل من خلال ذلك الى الاهداف.

فمثلاً: قد يتساءل البعض عن حكمة امر الله المؤمن بالجهاد في سبيله وخوض القتال، ويقول: او لم يقدر الله سبحانه على نصر المؤمنين من دون خوض المعارك؟

بلى؛ ولكن الجهاد امرٌ يكشف مقام الانسان ومكانته، فهي فرصة لخوض الامتحان لمعرفة مستوى عمله، لا قوله وشعاراته، ففي ساحة المعركة تتكشف الحقائق وتزول الاقنعة المزيفة التي قد يستطيع المرء تغطية وجهه بها امام الناس في ساعات الدعة واليسر، وكما قال عليٌ الاكبر بن الامام الحسين عليه السلام في رجزه يوم عاشوراء:

الْحَرْبُ‏ قَدْ بَانَتْ‏ لَهَا حَقَائِقُ‏

وَ ظَهَرَتْ مِنْ بَعْدِهَا مَصَادِقُ‏
وَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ لَا نُفَارِقُ‏

جُمُوعَكُمْ أَوْ تُغْمَدَ الْبَوَارِق‏[1]

إن تقدم اية حضارة كان في اوقات الحرب، وكذلك فان اهم انجازات البشر العلمية والصناعية كانت من انتاج الجيوش والمحاربين او لأجلهم.

ومن هنا؛ فلابد لنا ان ندخل الامتحان لنعرف انفسنا اولاً، ومن ثم نبنيها ونصلح ما فسد منها، كما الذهب الذي يفتتن بعرضه على النار ليخرج صافياً من الشوائب والعلائق.

فللامتحان بُعدان : معرفة جهات الضعف، والحركة نحو التقدم.

ولابد ان يكون في الامتحان جهتين :

الجهة الاولى: الرب وملائكته وسننه وقيمه والعقل المودع في الانسان.

الجهة الثانية : ولابد من وجود جهة ثانية مناقضة للاولى تتمثل في ابليس وجنده.

ويعطي الله سبحانه الفرصة تلو الاخرى للانسان في اختباره، كما انه يمهل ابليس، فهو امتحان للانسان من جهة ولابليس من جهة اخرى.

وقال البعض، ان امهال الله لابليس كان بسبب كثرة عبادته وارتفاعه الى مقام الملائكة.

[قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْني‏ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرينَ *  إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ]

طلب ابليس الفرصة من الله سبحانه وعدم التعجيل في انزال عقوبة عصيانه، فاعطاه الله سبحانه ذلك وجعله في زمرة المنظَرين، فكما انظر غيره انظر ابليس ايضاً.

ولكن المفارقة كانت في ان ابليس طلب الفرصة من الله الى يوم البعث، الا ان الله سبحانه لم يعطه ما اراد، بل الفرصة هي الى يوم الوقت المعلوم، ما الحكمة في ذلك؟

هناك احتمالان:

الاول: ان الله لم يرد ان يظهر له مدة فرصته، فلم يعلن له عن وقت انتهائها، كما الموت بالنسبة للانسان الذي يأتيه فجأة.

الثاني: ان وقت انتهاء فرصة ابليس تنتهي بظهور الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه الشريف.

[قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ ]

اقسم الرجيم بعزة الله سبحانه، بأنه سيسعى في اغواء ذرية آدم، واستثنى منهم عباد الله المخلصين، الذين استخصلهم الله سبحانه بخالصة منه، ويبدو ان الاستثناء جاء لمعرفة ابليس عدم مقدرته على الاقتراب منهم واغوائهم.

[قالَ فَالْحَقُّ والْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعينَ ]

اجاب الله سبحانه على ادعاء ابليس ذلك وقسمه، بأن الحق وهو القائل به دوماً، بانه سيملأ جهنم من ابليس واتباعه.

ولكن الله سبحانه لم يقل: (املأ جهنم منك وممن اغويت)، ليبين انه يغفر لمن اغواه ابليس ولكنه عاد الى رحاب رحمة الله سبحانه، نعم من صارت مسيرته تابعة لخط ابليس، فهو ممن يستحق عذاب جهنم مع سيده الرجيم.

[ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمينَ * ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حينٍ]

يأمر الله سبحانه – في نهاية السورة – نبيه بأن يعلن عدم مطالبته بالاجر في مقابل دعوته الى الله، فهو ليس من المتكلفين، اي انه، صلى الله عليه واله، لم يتصنع هذا الامر من عند نفسه، ولم يدّعِ شيئاً باطلاً.

بل هو – اي القرآن الكريم- ذكرٌ للعالمين وموعظة لهم، ولكن المشركين بتكذيبهم لن ينتفعوا به، وسيعلمون نبأه بعد حين، إما بالموت او القيامة، او بظهور الامام الحجة، عجل الله فرجه الشريف، كما في الحديث عن الامام ابي جعفر، عليه السلام: [ ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ‏ بَعْدَ حِينٍ] ‏ قَالَ : عِنْدَ خُرُوجِ الْقَائِمِ (ع)[2]

وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  – مناقب ال ابي طالب : ج4، 109

[2]  الكافي: ج8، ص 287

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تدبرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)

شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس الثامن والعشرون (الاخير.)