
تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السادس)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فىِ شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ(8)
أَمْ عِندَهُمْ خَزَائنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ وَمَا بَيْنهَمَا فَلْيرَتَقُواْ فىِ الْأَسْبَابِ(10). صدق الله العلي العظم
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا
هناك عدّة بصائر هامّة في الآيات الكريمة إن تأملناها ووعيناها تتفتح أمامنا عدّة آفاق وتتضح لنا الكثير من التساؤلات.
البصيرة الأولى: كانت مشكلة الكفّار أنّهم لم يستطيعوا أن يدركوا معنى الرسالات الالهية، ولذلك فإنّهم لم يُميزوا بين المسائل التي ترتبط بالماديات من تلك المسائل المعنوية، ومن هنا فقدوا المعايير الصحيحة لمعرفة النبي المبعوث من قبل الرب، فقالوا لماذا يكون النبي شخصاً يتيم الابوين؟ ولماذا لم يكن النبي من له زعامة عشائرية، او اموال طائلة، او سلطة ومُلك؟
في الحقيقة لقد أخطأ هؤلاء من عدّة أبعاد، اولاً لأنّهم قد جعلوا المعيار مادياً من المال أو ما اشبه، بينما في الرسالة الإلهية لا قيمة لذلك، لأن الحديث ليس عن التجارة والربح المادي وإنّما عن الحق والوفاء والصدق وتبليغ القيم السامية الى الأمّة، فكان المعيار في ذلك الصدق والأمانة التي عُرف بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى قبل بعثته .
فقد أخطأ الكُفّار في المعيار الذي يختار الله به انبياءه لأنهم خلطوا بين المعايير البشرية المادية والمعايير الالهية.
و أخطأوا مرة ثانية في المصداق لأنّ العرب كانوا عشائر وقبائل مختلفة، وكانت قريش في قمة هذه القبائل، وكانت قريش هي بدورها منقسمة الى ابناء عبد شمس وبني أمية من جهة وابناء هاشم وبني عبد المُطلب من جهة اخرى، وكان بنو هاشم طاهرين مُطهرّين بخلاف القسم الأوّل، وهو ما قاله الامام علي ابن الحسين (عليه السلام) في الشام حين قال: [أنا ابن قليلات العيوب، نقيات الجيوبِ] أي النساء الطاهرات.
أمّا عن احسانهم الى الآخرين فيكفي تسمية هاشم الذي كان دليلاً على عطائه وكرمه للحجيج، وكذلك العباس وسائر بني هاشم الذين كانوا يُنفقون اموالهم ويُسقون الحجيج، فقد أُختير النبي وهو خيرة الخيرة. ولذلك نقرأ في بعض الأدعية:
[اللهم صل على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك وحبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقكِ].
قالت قريش:
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا
فمن كان أولى منه (صلى الله عليه وآله)؟ فهُم قد أخطأوا مرتين: مرة في المعيار، ومرّة في ايجاد المصداق للمعيار الصحيح.
ردّ الشُبهات
لا يكتفي القرآن بذكر شُبهة قالها اولئك الكُفّار حتى يُفندّها بشكل كامل، والآيات التالية هي ردود على الفكرة الباطلة التي قالها اولئك الكُفّار من قريش.
اولاً: إنهم لم يفهموا أساساً معنى الذكر، فقد جاء الأنبياء ليُثيروا دفائن العقول، وذلك يستدعي مخاطبة أعماق وجدان الإنسان، فكيف يتسنّى ذلك لأي شخص؟ ولذلك قال تعالى:
[بَلْ هُمْ فىِ شَكٍّ مِّن ذِكْرِى]
لأنّهم أساساً جهلوا معنى الذكر.
ثانياً: [بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ] لمّا للتوقع، ويذوقوا أي يستشعروا به ويدخلوا في عمق العذاب. ذلك لأنّ مشكلة البشر هو عدم استعماله الفكر الّا إذا وجد دافعاً حقيقياً لذلك، فما لم يشعروا بالعذاب فانهم لا يستعملون فكرهم، وهو ما استدلّ به الامام الصادق (عليه السلام) مع الطبيب الهندي في حديث اهليلجة حيث قال له:
هل بد من أن يكون أحدنا صادقا والآخر كاذبا؟ قال: لا، قلت: أرأيت إن كان القول قولك فهل يخاف علي شيء مما أخوفك به من عقاب الله؟ قال: لا، قلت: أفرأيت إن كان كما أقول والحق في يدي ألست قد أخذت فيما كنت أحاذر من عقاب الخالق بالثقة وأنك قد وقعت بجحودك وإنكارك في الهلكة؟ قال: بلى، قلت: فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة؟ قال: أنت[1]
فحين يُفكّر الانسان بدوافع بعيدة المدى، وأنّ العذاب من المُمكن أن يشمله هو ايضاً بدليل وقوع العذاب على اقوام سابقة، حين يُفكر الانسان بذلك يتخذ المعيار الصحيح لمعرفة النبي (ص) لأنّه سيستخدم عقله وفطرته.
وهكذا على الانسان دائماً أن يستعمل التفكير للمستقبل من أجل الوصول الى أهدافه في الحياة، فالتاجر الذي يفكر في النهايات ينجح في البدايات، والجيش الذي يُفكّر في الحرب ينجح حين يدخلها، وهكذا…
كما وأنّ على الانسان ان يُفكّر قبل فوات الأوان لأنّنا لن نعيش في الحياة سوى مرّة واحدة وعمرنا قصير جداً، وقد نخطأ في هذه الحياة الواحدة والعمر القصير اخطاءً لا تُجبر أبداً، فعلينا التفكير ملياً والاستفادة من تجارب الآخرين لكي لا نقع في مثل هذه الأخطاء.
ثالثاً: يدّعي الكُفّار أن القائد الرباني ينبغي ان يكون رجلاً ذا مال، فيتساءل القرآن هل الدنانير والدارهم أكثر من خزائن الله التي لا تنفذ؟ يقول ربنا المتعال:
[أَمْ عِندَهُمْ خَزَائنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ]
فربّنا له خزائن السموات والأرض، وحين يبعث نبياً فهو اغنى من كل اغنياء العالم، لأنه مبعوث ممن له هذه الخزائن.
ومن هنا فليس من الصحيح التفكير بأن الايمان يصطحب الفقر والشقاء المادي دائماً، فليس النبي (ص) فقيرا لأنّه مبعوث من العزيز الوهّاب.
رابعاً: [أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ومَا بَيْنهُمَا ]
فقد كان المعيار الآخر الذي استخدموه هو المُلك، فأيّ مُلك أعظم من ملكوت السموات والأرض؟ وربنا عزوجل هو المالك لكل الخلائق وهو الذي بعث النبي (ص) فلا قيمة لأي ملك بعد ذلك.
لا تنظر الى من قال وانظر الى ما قيل
وفي النهاية ينبغي القول أن الكُفّار إنّما جعلوا معايير خاطئة للاستماع من النبي (ص) ومما علينا ان نستفيد منه هو أنّ على كل مسلم التفكير فيما قيل لا عن الذي قال لأنّ الله قد أعطى للإنسان العقل عليه أن يستخدمه في التمييز بين الافكار المختلفة.
صحيح أنّ علينا البحث عن العلماء الربانيين ضمن المعايير القرآنية الصحيحة التي نبتعد عنها اليوم ومع الاسف بسبب التسطيح الثقافي الموجود وأخذ كل الثقافة من الانترنت، لكن علينا حتّى بعد اتّباع العالم الرباني أن يكون إتّباعنا إتّباعاً واعياً لكي لا نقع في تتبع زلّة العلماء.
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج3، ص: 154
تدبرات المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس السادس