Search Website

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السابع)

تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس السابع)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنهَمَا فَلْيرَتَقُواْ فىِ الْأَسْبَابِ(10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ(11). صدق الله العلي العظيم

 

الانسان بين الحق والباطل

الحكمة من خلق البشر ومجيئهم الى هذه الدينا هو الإمتحان والابتلاء. ولا يتحقق الامتحان الّا حين يتعادل كفتا الميزان ويكون اختيار الانسان بنفسه ودون تأثيرات خارجية، ومن هنا فإنّ الحق والباطل يسيران في الحياة على قدم وساق.

فكيف يمكن ذلك؟ أليس الله مع الحق؟ والسنن الكونية كُلّها بنيت على الحق؟ ثم أليس الباطل مخالفاً للسنن الالهية؟

نفهم الإجابة عن ذلك حين نفهم سُنّة الامتحان التي تقتضي وجود الباطل، فالانسان خُلق من نطفة أمشاج، فطينته ممزوجة بين الحق والباطل يقول تعالى :[ إِنَّا خَلَقْنَا الْانسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا] (الانسان، 2).

وهكذا يقول ربنا: [وَ نَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا. فَأَلهْمَهَا فجُورَهَا وتَقْوَاهَا] (الشمس، 7-8).

وقد جاء في الحديث عن ابي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: […الم تر الى شيئين يختلجان في قلبك‏، شي‏ء يأمر بالخير هو ملك يرحّ القلب‏، والذي يأمره بالشر هو الشيطان‏ ينفث في اذن القلب‏. ثم قال: للملك لُمّة وللشيطان‏ لُمّة، فمن لُمّة الملك ايعاد بالخير وتصديق بالحق ورجاء الثواب، ومن لُمّة الشيطان‏ تكذيب بالحق وقنوط من الخير وايعاد بالشر.] (الأصول الستة عشر، ص: 161).

ويُراد بالقلب هُنا الروح، وإنّما سُمّي القلب بذلك لكثرة تقلّبه فقد ينتقل من أعلى علّيين الى أسفل سافلين بين عشية وضحاها.

اذن إنّ لأصل وجودنا بُعدين احدهما نوري والآخر ناري، ومن الطبيعي أن يختار البعض الحق والصدق والقيم الفضلى ويختار القسم الآخر نقيض ذلك، وبمرور الزمن يتحول ذلك الى تيارين متناقضين، أحدهما يمثله هابيل ونوح وابراهيم وكل الانبياء والصالحين، والآخر يُمثّله قابيل ونمرود وقوم عاد وفرعون وكل الظلمة والمستكبرين.

ولكلّ من التيارين قوّة تستند عليها وتؤثر فيها. أمّا الحق فالرب وسننه واسماؤه معه، وأمّا تيار الباطل فشياطين الجن والانس تسانده. ومن هنا نجد أنّ الله تعالى جعل محور اول سورة من سور القرآن: [اهدنا الصراط المستقيم] وجعل محور آخر سورة في القرآن قوله: [من الجِنّة والناس] ويعني ذلك أنّ الوصول الى الصراط المستقيم إنّما يتحقق حين يعيذ الله الانسان من شرّ الجِنّة والناس، لأنّ الشيطان يتمثّل في الواقع بالتيارات الفاسدة.

 

الله يمهل الظالمين

و من أبعاد سُنّة الامتحان في الحياة هو أن الله سبحانه وتعالى يُمهل الظالمين بل ويُمدّهم ويفسح أمامهم المجال لكي تتحقق سُنّة الامتحان.

و أوّل مَنْ أمهله هو ابليس حين: [قَالَ رَبّ‏ِ فَأَنظِرْنىِ إِلىَ‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ] (الحجر، 36-37).

و العجيب أن ابليس يعصي الرب بقدرته على الانسان، ومن ذلك قوله سبحانه: [إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وقَبيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم](الاعراف، 27).

و الاعجب من ذلك قوله سبحانه:

[كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً] (الإسراء، 20).

لكي تتحقق العدالة الالهية ويختار الانسان طريقه بكامل حريته وارادته يمدّ الرب كلا التيارين ويبقى الانسان مخيراً بين الحق والباطل.

 

للباطل جولة وللحق دولة

و من هُنا نجد اناساً هم في منتهى الفساد والطُغيان رغم انهم كانوا معاصرين للانبياء والائمة عليهم السلام، من ذلك: وجود فرعون حين بُعث موسى (عليه السلام)، ونمرود حين بُعث ابراهيم (عليه السلام)، وابو سفيان يُقابل النبي (صلى الله عليه وآله). وذلك من أبعاد الامتحان أيضاً إذ لولا وجود جبهة قويّة للباطل لم يكن ليتحقق الإمتحان.

وذلك لا يعني أنّ الله قد ترك الظالمين يعيثون في الأرض فساداً دون حساب، إنّما ربّنا يمهل الظالمين ولكن حاشاه من أن يهملهم، فتراه يُعطي فرصة للباطل في البدايات ثم ينتصر الحق في النهاية .

و من هنا نجد  تاريخياً أنّ أهل الباطل كانو أقوى من أهل الحق في البداية ثم انتصر الحق عليهم في النهاية، فمن صبر من المؤمنين نال شرف النصر، أمّا الذين لم يصبروا فإنّهم خسروا الدنيا والآخرة، وهذا ما نجده ايضاً في حياة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث كان يعيش ولسنوات عدّة تحت ضغط قريش في مكّة واستمرّ الحال الى حرب خندق حيث هُزم الأحزاب جميعاً في مقابل جيش الاسلام، يقول تعالى: [جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ].

فتعبير الآية دلالة على صغر ما يملكون من الجُند الذين كُتبت عليهم الهزيمة رغم اجتماع الاحزاب كلهم لقتال المسلمين.

و على الصعيد الشخصي أيضاً يتكرر ذلك المشهد حيث أنّ الحرام يأتي للانسان اولاً، فإن اختاره ذهب عنه الحلال، وإن امتنع عن الحرام يأيته الحلال، وكما على البُعد الشخصي كذلك على صعيد التيارات بصورة عامّة.

يقول سبحانه :[ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ومَا بَيْنهَمَا]

ظنّ اولئك أن مُلك السموات الأرض كانت بيدهم فقد اغتروا ببعض المُلك الذي كان لقريش متغافلين أن ذلك أيضاً ملك الله وهو الذي قد اعطاهم اياه.

 

فليرتقوا في الأسباب

ثم يقول ربنا عزّوجل: [فَلْيرَتَقُواْ فىِ الْأَسْبَابِ]

فماذا تعني هذه الكلمة؟

يرتقوا بمعنى: يصعدوا بشكل تدريجي، والاسباب تعني في لغة القرآن مجموعة من العلل الطبيعية للوصول الى الحقائق.

فلو صنع الانسان طائرة فهو إنّما استفاد من مجموعة من العلل الطبيعية والقوانين الكونية، فينبغي أن يعلم الانسان حين يرى هذه الصنعة أنها من فضل الله، فهو الذي جعل هذه القوانين والسنن من جهة، ووهب للانسان عقلاً يستطيع كشف تلك السُنن، ولذلك نقول حين استخدامها: [سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ]. (الزخرف،13).

و البُعد الآخر لهذه الآية أنّها ليست فقط بيان لهذه الحقيقة، بل والآية تدفعنا لنبحث في تلك العلل الكونية ونستفيد من الاسباب والمسببات ونتقدم في اغوار العلم. لا أن نعتمد فقط على الآخرين في الصناعات ونستجدي منهم العلم بل علينا التقدم في كل الاتجاهات.

لكن ينبغي ان نعلم مهما تقدمنا في العلم أن قدرة الله مهيمنة على كل شيء فالاسباب لا تتجاوز قدرة الرب جل وعلا.

وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

 

تدبرات المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)

شهر رمضان المبارك / 1435

الدرس السابع