
تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس الثامن)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ*وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ*إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ* صدق الله العلي العظيم
الخلق والأمر تجلّي هيمنة الرب
كان الله ولم يكن معه شيء، ثُمّ خلق الأشياء، فهو الخالق المهيمن على كل شيء، وتتحقق هذه الهيمنة الالهية عن طريقين:
أولّهما عن طريق السنن الالهية، أمّا الطريق الآخر فهو الأمر الالهي.
أمّا السنن فتعني أنّ الله سبحانه قد خلق الكون على أساس السُنن الالهية وجعل سُننه جارية على اصغر ذرّة واكبر مجرّة على حدّ سواء.
أمّا الثاني فيعني الأمر المباشر من الله تعالى الى المخلوق، ولا يقف أمام أمر الله شيء، فأمره محتوم الوقوع، يقول الله سبحانه وتعالى: [ِأَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمينَ] (الأعراف، 54).
فعلى سبيل المثال خلق الله النار، وجعل سنتّه في النار أنّها تحرق، ولكن النار لا تحرق الّا بعد أن تستأذن من الله سبحانه، ولذلك تجد أحياناً أنّها لا تحرق، فتكون النار برداً وسلاماً على ابراهيم، يقول تعالى: [قُلْنا يا نارُ كُوني بَرْداً وسَلاماً عَلى إِبْراهيمَ] (الأنبياء، 69).
وهكذا السكّين الحادّة تقتل الانسان، ولكنّها بأمر الله لا تؤثر في إسماعيل. إذ حين رأى ابراهيم في المنام أنه يذبح ابنه، وقرر أن يفعل ذلك، فكان يضرب بالسكين على الحجر فيقسمه، ولكن ما أن يحاول ذبح اسماعيل فإذا بالسكين لم تترك أي أثر على رقبة اسماعيل اللطيفة، فالخليل يأمرها بالذبح والجليل ينهاها، والله بالغ أمره.
و قد جرت سُنّة الله على أن الظالم يفنى بل ويُباد، وأنّ الكافر يُمحى، وحكومة الطغاة لا تبقى، وهذه سنة الله.
لكنّ لجريان هذه السُنّة شروط، منها تحمّل المستضعفين مسؤوليتهم: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة،41).
وهكذا جرت سُنّة الله أن المريض ينبغي أن يُشفى ولكن بعد أن يستخدم أسباب الشفاء.
هذه هي السنن الالهية في الحياة، لكن هناك شيء آخر وهو الأمر الالهي، فقد يكون شخص مريضا وقد يئس من شفائه كلّ الاطباء، ولكن الله يكتب له الشفاء، وهذا هو الأمر الالهي الذي هو محيطٌ بالسنن الالهية.
فيما يرتبط بالعذاب الالهي الذي نزل على الامم الماضية كان من الأمر الالهي، يقول ربنا تعالى: [فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُود] (هود، 82). وهذا هو الأمر الألهي.
هناك بعض المُفسّرين يحاولون تبرير العذاب الذي نزل على الاقوام السابقة بطريقة طبيعية، مثل جعل سبب هلاك أصحاب الفيل هو انتشار المرض بينهم، كلّا إنّه أمر الله يُهلك أقواماً ويستخلف آخرين.
لماذا الأختلاف في العذاب؟
حين نتأمل في الآيات القرآنية وقصص الماضين نجد أن العذابات الالهية التي نزلت على الاقوام السابقين يختلف كلّ واحد منها عن الآخر، لماذا؟
فبعضهم أُغرقوا بالماء، وثمود أهلكوا بالصيحة، وعادٌ بالهواء، لماذا؟
بالنظر الى الآيات القرآنية بتمعن وتدبّر نجد الاجابة في نقطتين:
اولاً: في قوله سبحانه: [فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ومِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ومِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ومِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (العنكبوت، 40).
فلكل ذنب يناسبه عذاب مُعيّن، لا أن يكون لكل الذنوب عذاب واحد.
ثانياً: يُستفاد من بعض الآيات والروايات أن سبب طغيان البشر هو اعتمادهم على قوّة معينة يستندون إليها، بمعنى ان البعض يطغون بسبب وجود الماء والانهار كما قال فرعون: [َوهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْري مِنْ تَحْتي] وكان ذلك سبب طغيانه فجعل الله ذات الماء سبباً في هلاكه.
أمّا قوم عاد فكانت لهم قوة في اجسادهم وكانوا يلتجؤون الى الجبال والصخور لمواجهة أي خطر، فجعل الله تلك الصخور سبباً في هلاكهم، لأنّ الهواء حينما جاء هدم بيوتهم.
إذن، الذنب الذي يرتكبه العباد يقتضى عذابا معيناً، مُضافاً الى أنّ افتخارهم وغرورهم بشيء ما يجعل ذات الشيء سبباً في هلاكهم.
و نحن ايضاً ينبغي أن لا نغتر بأي شيء في الحياة، سواء كان المال او الجاه او المنصب او العلم، لأنّ الانسان حين يتوجه الى شيء من أمور الدنيا فهذا بداية سقوطه.
كذّبت قبلهم قوم نوح
رغم وجود انبياء في مختلف الاماكن والازمان، الّا أن القرآن عادة ما يكتفي بذكر بعض الانبياء العظام لوجودهم في هذه المنطقة وكان ذلك كافياً لتذكير الناس.
يقول تعالى: [كذبت قبلهم قوم نوح].
اوّل حضارة كانت على هذه المعمورة كانت في بلاد الرافدين وقيل في مصر، وربنا يبين أن كلا الحضارتين كانتا تفتخران بالماء، وذات الماء صار سبباً لهلاكهما.
[وَ ثَمُودُ وقَوْمُ لُوطٍ وأَصحْابُ لْيْكَةِ أُوْلَئكَ الْأَحْزَابُ].
فثمود بالصيحة، وقوم لوط بالزلازل، واصحاب الأيكة الذين هُم قوم شعيب الذين كانوا قُرب منطقة معان في الاردن وكان اولئك القوم ينتظرون الغمام لقلّة الامطار واذا بتلك الغمام التي كانوا ينتظرونها قد انزلت عليهم العذاب.
ذو الأوتاد
وهكذا يذكر الرب عزّوجل فرعون ويصفه قائلاً:
[وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ].
فماذا تعني هذه الكلمة؟
قال بعض المفسرين أن الاوتاد كانت وسيلة فرعون لتعذيب الناس بل واعدامهم، والرأي الثاني هو أن الاوتاد كانت مسامير يلعب بها فرعون بمثل ألعاب القمار.
ورُبّما في الكلمة اشارة الى قدرة فرعون ونظامه بمعنى أنّ نظامه كان قوياً وكأنّه المسامير المثبتة.
والمعنى الذي أحتَمِله كما بعض المفسرين ايضاً هو أنّ [ذو الأوتاد] اشارة الى الاهرام الموجودة في مصر التي تشبه الوتد، والسبب في ذلك أنّ القرآن كتاب خالد ويُستبعد عدم ذكره للاهرام التي كانت لها اهمية تاريخية كما اشار الى اشياء أخر مثل سد ذي القرنين.
فهذه الحضارة التي بنت مثل هذه الاهرام هلكوا بأيسر ما يكون.
أُوْلَئكَ الْأَحْزَاب
فاذا كانت الاحزاب تستطيع ان تقاوم أمر الله فهذه الاحزاب من قبلكم فانظروا الى تلك الحضارات كيف أٌهلكوا وكيف سادوا ثمّ بادوا؟ وقد كتب علماء الحضارات أن حضارة الفراعنة ماتت شابّة قياساً الى عمر الحضارات الطبيعي وانتقالها من مرحلة الشباب الى مرحلة الكهولة ثم انتهاء الحضارة، لكن حضارة الفراعنة كتبوا عنها أنّها ماتت شابّة وهُم يجهلون سبب ذلك.
نقول لهم إن سبب ذلك لأنّهم خالفوا سُنن الله فـأتاهم أمر الله وابادهم.
إن كلٌ الّا كذّب الرُسُل
ثم يبين ربّنا أن هؤلاء الذين ذُكروا كانوا مختلفين في الازمنة والمناطق، وحضاراتهم ايضاً كانت متعددة، الّا أنهم كانوا يشتركون جميعاً في نقطة واحدة وهو الكفر بالله، وإنما كان وصولهم الى تلك النتيجة التي هي عذاب الاستئصال لهذا السبب، يقول تعالى:
[إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ] فالكل اشترك في تكذيب الرسل [فَحَقَّ عِقَابِ] والفاء هنا للتفريع.
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
تدبرات المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس الثامن