
تدبرات المرجع المدرسي في سورة (ص) شهر رمضان المبارك / 1435 – (الدرس التاسع)
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
عجّل لنا قطّنا
بصائر عدّة نستفيدها من الآية المُباركة التي يبدو لي أنّها محور سورة (ص). وأهمّ تلك البصائر هي أنّ البشر كما يستطيع بحواسّه الظاهرية أن ينظر الى الأفق البعيد، أو أن يسمع من مكان بعيد، كذلك في الأمور الباطنية يستطيع الانسان أن ينظر الى البعيد.
ومن الناس من ينظر الى يومه فقط، أمّا القسم الآخر فهو من يرمي ببصره الى الافق البعيد ليخترق المستقبل. ومهما تقدّم البشر في العلم، ومهما تقدمت حضارته، فإنّه ينظر الى البعيد فيما يرتبط بالأمور الماديّة، فنرى بعض الدول تضع الخطط الخمسية، فيما تُخطط دول أخرى لمائة سنة قادمة.
بعيد المدى
وروح الانسان تستطيع – كما حواسّه – أن تنظر الى البعيد، فلا يفكّر الانسان في يومه فقط، وهذا ما نجده عند اولياء الله والصالحين.
في أحد الايام دعا معاوية ابن ابي سفيان بعد هيمنته على السلطة في الشام ضرار بن ضمرة الكناني وكان من أصحاب امير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا ضرار صف لي علياً.
قال: أو تعفيني من ذلك؟
قال: لا أعفيك.
قال: (أما إذ لا بد، فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة عن لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته…).
فوكفت دموع معاوية على لحيته، وجعل يستقبلها بكمه، واختنق القوم جميعا بالبكاء، وقال: هكذا كان أبو الحسن يرحمه الله، فكيف وَجْدُك عليه يا ضرار؟ فقال: وَجْدُ أمّ واحدٍ ذُبِح واحدُها في حجرها، فهي لا يرقى دمعها ولا يسكن حزنها). (كنز الفوائد، ج2، ص: 161).
و الشاهد من وصف ضرار أنّه وصف أمير المؤمنين بأنّه كان (بعيد المدى) فهو لا ينظر الى يومه فقط بل ينظر الى المستقبل.
و كلّما كان بُعد نظر الانسان أكثر كلّما تكامل أكثر، وهذا هو الفرق الجوهري بين المؤمن والكافر، إذ ان المؤمن حين ينظر فهو يفكّر في المستقبل في الدنيا وفي الآخرة، بينما الكافر لا يُفكّر الّا في يومه في الدنيا. وهذا هو المعنى الدقيق للصبر.
الصبر رأس الايمان
و من هنا ورد في الحديث الشريف أنّ: [الصبر من الايمان كالرأس من الجسد] (مصباح الشريعة، ص: 184).
ويعني الصبر إلغاء حاجز الزمان، لأنّ المؤمن يُفكّر في الآخرة فيتعالى عن الدنيا بخلاف الجزوع الذي لا يريد الّا مصلحة عاجلة.
فاذن لو أردنا أن نُكمّل ايماننا علينا ان نلغي حاجز الزمان فنغضّ النظر عن الأيّام.
ولذلك نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سُئل عن الايمان، بيّن أربع دعائم للايمان، وجعل أوّلها الصبر.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): [إنّ الله – عز وجل – جعل الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد.]
ثم يبدأ ببيان كل دعامّة وشعبها فيقول :
[فالصبر من ذلك على أربع شعب: على الشوق، والإشفاق، والزهد، والترقب؛ فمن اشتاق إلى الجنة، سلا عن الشهوات؛ ومن أشفق من النار، رجع عن المحرمات؛ ومن زهد في الدنيا، هانت عليه المصيبات؛ ومن راقب الموت، سارع إلى الخيرات.]
(الكافي (ط – دارالحديث)، ج3، ص: 131)
فمن يُفكّر في الجنّة التي هي دار ضيافة الله، فينظر الى ما فيها من النعيم المقيم والقصور والحور والانهار والاشجار، تتصاغر أمامه شهوات الدنيا حتّى لتكون لا شيء، وتكون الحياة عنده نموذجا من الآخرة. وقد مررت في حياتي باناس ينظرون الى الآخرة كالبيت الثاني الذي ينتظرهم. فالمعنى الاول للصبر اذن هو إلغاء حاجز الزمان والاشتياق للجنّة من أجل الوصول اليها.
البُعد الثاني من الصبر هو الاجتناب عن المُحرّمات والتفكير الدائم بأنّ من الممكن أن يكون كلّ واحد منّا حطباً لجهنّم ممّا يجعله يصبر عن المحرمات.
وهكذا يزهد المؤمن في الدنيا فلا يغترّ بها، وهذا هو الُعد الثالث من أبعاد الصبر. ويعني الزُهد كما جاء في الحديث عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: [ ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال، ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عز وجل] (الكافي، ج5، ص70) فليملك الانسان كلّما أراد أن يملك، لكن الحذر من أن يملكك شيء، ومَن هو كذلك تراه لا يتأثر بمصائب الدنيا، ولا بصعود السوق وهبوطه، ولا بالخسارة والربح في التجارة، أو ماشابه.
ومن راقب الموت سارع فی الخيرات، وهذا هو البُعد الرابع من الصبر، لأنّ الانسان الذي يُفكّر دائماً بالموت تراه يسارع في الخيرات يقول الله تعالى :[ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ] (السجدة، 11).
والوفاة هو ردّ الأمانة، والتوفّي هو أخذ الأمانة كاملاً. وإنّما استخدمت الكلمة هُنا باعتبار انتهاء الانسان بمجرّد موته، فلا شخصه ولا جسده ولا اسمه ولا امواله تبقى، إنما تنتهي كلّها، بل وحتّى ذكره ينتهي، فالذّي يُفكّر في ذلك تراه يفعل الخير في كل لحظة.
هذه أربع شعب للصبر، نعود لنتدبّر في الآية القرآنية، فالكُفّار من قريش قالوا:
[رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ].
أي اجعل كل استحقاقنا في هذه الدنيا، فنحن لا نريد الآخرة.
وكلمة [قِطَّنا] تعني نصيبنا، أي أنّ الذي تبشّرنا به من الجنّة والانهار والنعيم المقيم نحن نريده الآن في الدنيا دون الآخرة.
و كان هذا خطأهم الكبير، وهذا هو الفرق الجوهري بين المؤمن والكافر
وهو ذات الفرق بين حرّ بن يزيد الرياحي وعُمر ابن سعد، لأنّ الأخير رجّح مُلكاً حاضراً على النعيم المقيم، بينما قال حُر كلمته المشهورة: [إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فو الله لا أختار على الجنة شيئا ولو قُطِّعْت وأُحْرِقت.] (بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج45، ص: 11).
لا تستخفّوا بدينكم
نحن علينا أن نُفكّر دائماً أننا في صراع مع الباطل، وأنّ مصيرنا امّا الى الجنة او الى النار، ومِنْ هنا علينا أن لا نستهين بديننا. وفي هذا المجال يُروى أن رجلاً سئل أبا جعفر (عليه السلام) فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟
فقال له أبو جعفر عليه السلام: (لا تأكله). فقال له الرجل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها. فقال له أبو جعفر عليه السلام: (إنك لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك). (الإستبصار، ج1، ص24).
فإذا خُيّرتم بين الحلال والحرام فكّروا بأنكم سوف تفقدون دينكم في مقابل شيء تافه.
إذن، محور سورة (ص) هو قوله تعالى: [وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ].
والآيات التالية هي اجابة لهذه الفكرة التي قالها كُفّار قريش والتي قد يبتلى بها كلّ الناس، فيجيب القرآن عن تلك الفكرة بذكر قصص حدثت في التاريخ، قصة داوود وسليمان وكيف أنّهم كانوا مع الله فآتاهم الله ثواب الدنيا وحُسن ثواب الآخرة وفازوا بالدارين.
ليس من الصحيح التفكير بأنّ الذي يكون مع الله سيخسر كل شيء في الدنيا، فمن يُنظّم حياته على اساس الآخرة ترى دنياه ايضاً على ما يُرام، وهناك الملايين من الناس عاشوا في الدنيا بافضل ما يكون وهُم في الآخرة أيضاً من الصالحين، جاء في الابيات المنسوبة الى أمير المؤمنين عليه السلام:
وواحد فاز بكلتيهما |
قد جمع الدنيا مع الآخرة |
وواحد من بينهم ضائع |
ليس له الدنيا ولا الآخرة |
وفي الختام نسأل من الله تعالى أن نكون من الفائزين في الدنيا والآخرة، ودعاؤنا دائماً:
[ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار].
وصل اللهم علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.
تدبرات المرجع الديني آية الله العظمى المدرسي في سورة (ص)
شهر رمضان المبارك / 1435
الدرس التاسع