
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الثاني
05 Jun 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدير*
ان ايات القرآن الكريم ، قد تحتوي على اكثر من محور وهدف ، فهذه الاية التي ابتدأت ببيان فاطرية الله سبحانه وتعالى ، في اشارة الى قدرته عزوجل ، وكونه فاطراً للسموات والارض دون ان يعتمد على مادة سابقة ، او يحتذي على مثال قديم ، تستمر في بيان خالقية الباري عزوجل للملائكة و ما تملكه من اجنحة و..
[ جاعل الملائكة رسلاً]
ماذا تعني لفظة (جاعل)؟
ان هذه الكلمة وردت بصيغة (اسم الفاعل) واسم الفاعل يدل على المجيء بالفعل في الازمنة الثلاث (الماضي والحال والمستقبل) ، ولكن السؤال هنا ، اي زمان من الازمنة يقصد في لظفتي الـ( فاطر) و الـ (جاعل)؟
في الحقيقة ان المخلوق محاط بالزمان والمكان ومحدود بهما، ولكن الله سبحانه هو الخالق لهما وهو المحيط والمهيمن عليهما ، ومن هنا فلا معنى للماضي والمستقبل بالنسبة الى الرب عزوجل ، ولذها فانا نجد ان الله يحدثنا في احيان كثيرة عن القيامة بصيغة الماضي ، مثل قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَة)[1].
وهكذا فإن قدرة الله وفاطريته وقادريته ، ليست محددة بالزمان ، فكما ان الله خلق سابقاً فانه يخلق لاحقاً ، وقد تم اخيراً كشف خلقة شمس جديدة في درب التبانة ، الا يدل ذلك على قدرة الرب في ايجاد عوالم كبيرة في كل لحظة؟
وكما العوالم ، كانت خلقة الملائكة ، حيث لم ينقطع ذلك في زمان ما ، بل الامر مستمر دائماً ، بل وقد تكون الخلقة رهين فعل الانسان المؤمن ، فقد يقوم بعمل صالح يخلق الله منه ملكاً.
الايمان بالملائكة
كما يشترط في اكتمال ايمان المرء بالله سبحانه وتعالى ان يؤمن بالرسل والانبياء وبكتبهم ، كذلك فانه لا يكون مؤمناً حقاً الا اذا آمن بملائكة الله سبحانه وتعالى ، قال سبحانه : ( .. وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصير)[2].
والحديث عن الملائكة حديث مفصّل ، يحتاج الى كثير من الجلسات ، لما لهذا الموضوع من تشعبات وابعاد مختلفة ، ولكنا نحاول الاشارة الى بعض النقاط الهامة في هذا المبحث :
الاولى: لماذا الايمان بالملائكة ، وما ذا ينتفع المرء من ايمانه بهم ؟ ولماذا علينا ان نحترم الملائكة ونجلهم ونسلم عليهم في ادعيتنا؟
الاجابة على هذه الاسئلة تكون في النقاط التالية:
اولاً: لأننا نرتبط بهم ، شئنا ام ابينا ، وحياتنا تعتمد على وجودهم ، فعلاقتنا بهم علاقة مستمرة ودائمة ، اذ انهم يسيرون حياتنا بامر من الله سبحانه ، ومن هنا فانا بحاجة الى الارتباط بهم لحاضرنا ومستقبلنا.
ثانياً: ان الحقائق على قسمين ، منها ما يعرف باعيانها ، كما الضوء الذي يعرف من خلال النظر اليه ، وهناك حقائق لا تعرف الا باياتها ودلائلها، كما العقل الذي لا يعرف الا من خلال مراقبة سلوكيات الانسان وتصرفاته.
ومعرفة الله سبحانه وتعالى ، لا يمكن ان تكتمل الا من خلال الايات التي منّ علينا بجعلها دالة عليه ، اذ لولا تفضله بجعلها دلائل على معرفته ، لكان الناس يعيشون في ظلام الجهالات ، وخسروا خسراناً مبينا ، فقد قال الامام الحسين عليه السلام مخاطباً ربه في صحراء عرفات : (مَا ذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ وَ مَا الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ لَقَدْ خَابَ مَنْ رَضِيَ دُونَكَ بَدَلًا وَ لَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغَى عَنْكَ مُتَحَوَّلًا )[3] ، وهكذا يعرفنا الله نفسه من خلال بث الايات في الخلق ، الدالة على اسماءه الحسنى ، حتى قال الامام الحسين عليه السلام : (إِلَهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلَافِ الْآثَارِ وَ تَنَقُّلَاتِ الْأَطْوَارِ أَنَّ مُرَادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لَا أَجْهَلَكَ فِي شَيْء)[4].
ومن تجليات الله واياته ، الملائكة ؛ فالملائكة ايات جلال وجمال وكمال وعظمة الله سبحانه وتعالى ، فهذا يقضي دهره راكعاً لربه ، وذاك يقضيه بالسجود بخوعاً في اعظام خالقه ، وثالث بالتسبيح ورابح بالحمد والتهليل.. نعم انهم يدلون على خالق عظيم متجبر.
نعم ، ليست اجسامهم كاجسام بني ادم ، وبالرغم من ذلك فانهم يبقون خلقاً من خلق الله ، ففي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه واله : (هُمْ مَعْصُومُونَ لَا يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ لَا يَأْكُلُونَ وَ لَا يَشْرَبُونَ وَ لَا يَأْلَمُونَ وَ لَا يَسْقُمُونَ وَ لَا يَشِيبُونَ وَ لَا يَهْرَمُونَ طَعَامُهُمْ وَ شَرَابُهُمُ التَّقْدِيسُ وَ التَّسْبِيحُ وَ عَيْشُهُمْ مِنْ نَسِيمِ الْعَرْشِ وَ تَلَذُّذُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ خَلَقَهُمُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ أَنْوَاراً وَ أَرْوَاحاً كَمَا شَاءَ وَ أَرَادَ )[5].
واذا تأملنا الملائكة ، فاننا نصل من خلال معرفة عظمتهم ، الى جانب من جوانب عظمة الله سبحانه وتعالى ، فهذا اسرافيل الذي هو اعظم الملائكة ، ويملأ الدنيا باجنحته ، يتحول الى حجم العصفور في طريق صعوده الى السماء ، تصاغراً امام عظمة الله سبحانه وتعالى ، وكذلك الامر بالنسبة الى اخيه جبرئيل .
ومن الحسن ان يخصص الواحد منا وقتاً في كل يوم – خصوصاً في شهر رمضان المبارك – ليشتغل في التفكر في ايات الله سبحانه وتعالى في خلقة ليزداد معرفةً بربه ، وبالتالي يزداد ايماناً به وطاعة له.
ثالثاً: ان للملائكة ادواراً كبيرة في الخليقة ، ولهم مهام خطيرة ، منها انهم يحفظون الانسان ، حيث قال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه).
ومنها انهم يستغفرون للمؤمنين من عباد الله ، ففي الحديث : (يا علي! الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون للذين آمنوا بولايتنا)[6]
ومن مهامهم ان يدخلوا عالمنا على هيئة البشر ، فيقوموا بادوار مختلفة ، كما كان يتمثل جبرئيل على صورة دحية الكلبي ، وكما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله انه قال: حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ ، عليه السلام، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَهْبَطَ إِلَى الْأَرْضِ مَلَكاً فَأَقْبَلَ ذَلِكَ الْمَلَكُ يَمْشِي حَتَّى وَقَعَ[7] إِلَى بَابٍ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ مَا حَاجَتُكَ إِلَى رَبِّ هَذِهِ الدَّارِ قَالَ أَخٌ لِي مُسْلِمٌ زُرْتُهُ فِي اللَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى قَالَ لَهُ الْمَلَكُ مَا جَاءَ بِكَ إِلَّا ذَاكَ فَقَالَ مَا جَاءَ بِي إِلَّا ذَاكَ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ وَ هُوَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ وَجَبَتْ لَكَ الْجَنَّةُ وَ قَالَ الْمَلَكُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ أَيُّمَا مُسْلِمٍ زَارَ مُسْلِماً فَلَيْسَ إِيَّاهُ زَارَ إِيَّايَ زَارَ وَ ثَوَابُهُ عَلَيَّ الْجَنَّةُ.[8] ، وهناك نصوص كثيرة تدل على مجيء الملائكة الى الارض على هيئة البشر في مناسبات مختلفة ، مثل شرائهم من اسواق مكة لئلا يعم الكساد فيها ، او الدفاع عن المؤمنين او روايات اخرى لا مجال لسردها جميعاً.
كما ان من مهام الملائكة هو اخبار الاولياء بما سيكون مستقبلاً ، كاخبار جبرئيل رسول الله صلى الله عليه واله بما ستفعله امته من بعده بأهل بيته ، عليهم السلام ، بدءاً من ابنته فاطمة سلام الله عليها وانتهاءاً بسبطه الحسين عليه السلام.
[أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ]
لماذا قال الرب اولي اجنحة ؟
يقال ان الجناح للطير كاليد في الانسان ، ولكن معنى الجناح في اصل اللغة هو بمعنى الطرف والجهة ، وكما هو معروف ان الاستخدام في النصوص الدينية يقصد به المعاني الاصيلة في اللغة لا الى معانيها الجديدة عند العرف ، مثل لفظة اليد التي تعني مظهر القدرة ، ولذلك يقال ليد الانسان يد، لأنها مظهر قوته وقدرته ، وعلى المعنى هذا لا يمكن ان يقال ان لله ( يد ) جسمانية لأن لفظة اليد تستخدم لهذا العضو عند العرف ، وهكذا..
وهنا هل يكون المعنى ان للملائكة اجنحة ؟ ام المراد به ان لكل ملك جهات مختلفة وقدرات متفاوتة .
{ يزيد في الخلق}
يمكن فهم هذه العبارة من جهتين :
الاولى : ان الله سبحانه وتعالى قادر على ان يخلق المزيد من الملائكة.
الثانية: ان الله سبحانه خلق الخلق متكاملاً لا نقص فيه ، ولكن فيه قابلية التكامل والنمو ، وهذا يعني ان الملائكة يزدادون تكاملاً وعظمةً وقوة بعطاء الله سبحانه وتعالى.
[1] الواقعة: 1
[2] البقرة: 285
[3] اقبال الاعمال: ج1 ، ص 349
[4] بحار الانوار : ج 95 ، ص 225
[5] بحار الانوار: ج 26 ، ص 348
[6] تفسير القمي: مقدمة ج 1 ، ص 18
[7] ( 3) في بعض النسخ[ دفع]..
[8] الكافي : ج2 ، ص 176