Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الثالث

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولي‏ أَجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدير*ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم‏*

{ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً}

ما هي مهمة الملائكة ؟ هل تنحصر بالرسالة – كما في الاية – ؟ ام ان هناك مهام اخرى يقومون بها ؟ وبعبارة اخرى ، هل ان دور الملائكة في الحياة يقتصر على الجانب التشريعي ، ام يشمل الجانب التكويني ايضاً؟

ان الاية الكريمة تشير الى انهم (رسل الله) فتقتصر مسؤوليتهم على التبليغ ، ولكن هناك رأيٌ اخر يقول انهم (رسل) بمعنى كونهم (مبعوثين) من قبل الله سبحانه وتعالى الى خلقه ، فقد تكون مسؤوليتهم هو تبليغ الامر الالهي ، وقد تكون مهمتهم تطبيق الامر الالهي، فيكون لهم عمل تكويني ، مضافاً الى المهام التشريعية ، ودليل ذلك قوله تعالى : (ِ ..حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُم‏)[1]، او قوله سبحانه: (الَّذينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون‏)[2].  والايتان دالتان على ان الرسل يقومون بقبض ارواح الناس، وهذا يختلف عن التبليغ والرسالة.

ولنا ان نقول ههنا: يمكن ان تقتصر مهمة الملائكة على التبليغ فقط ، الا ان تبليغهم بالامر الالهي يقتضي التطبيق والتحقق ، بمعنى ان المرسَل اليه يطبق الامر الالهي الواصل اليه عبر رسله (الملائكة) ، اذ لا اختيار للمخلوقات امام الامر الالهي ، ،نعم هناك خصوصية للانسان حيث اعطاه الله الحرية في الاختيار في بعض الجوانب ، اما سائر المخلوقات فهي خاضعة لأمر الله سبحانه. ففي قبض الروح مثلاً ، يمكن القول ان القبض يتم عبر ابلاغ الروح بالخروج من البدن ، وكفى .. فيكون القبض بدوره تبليغاً ايضاً.

{ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدير}

غالباً ما تكون الآية في كتاب الله سبحانه ، هادفة لتقريب الانسان من معرفة الله عزوجل، وعادة تكمن هذه الرسالة في خواتيم الايات ، فالاسماء الحسنى المبثوثة في نهاية الايات ، هي الهدف الذي تبغيه الاية ، وهذه الاية – أيضاً – تبتدء ببيان فاطرية الله سبحانه وتعالى وخلقه للملائكة باشكال مختلفة وجعلهم رسلاً له ، كل ذلك للوصول الى الغاية التي تكمن في قوله سبحانه (ان الله على كل شيء قدير).

فالرب الذي خلق ملائكة اولي اجنحة مثنى وثلاث ورباع ، قادرين على تغيير ما في الكون ، انه اقدر منها على كل شيء ، وهو المهيمن على هذا الوجود.

ومن هنا فعلى المؤمن ان يتذكر ويلتفت الى قدرة الله سبحانه وتعالى ، ليؤثر فيه شعاش قوله تعالى: [ان الله على كل شيء قدير].

رحمة الله

من أبعاد فاطرية الله سبحانه وخالقيته، هي ربوبيته عزوجل، فالخالق هو الرازق، والفاطر هو المعطي، ومرحلة الرزق والعطاء تتأتى بعد مرحلتي الفطر والخلق.

ومن هنا قال ربنا سبحانه [ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها]، فموجد الخلق هو الرازق لهم دون غيره ، وفي هذه الاية بصائر هامة :

منها : ان التعبير بالـ ( فتح ) يدل على ان الرحمة الالهية موجودة ، وخزائنها لا متناهية ، فلا حاجة الا الى فتح باب الرحمة لتنزل على الخلق.

ومنها: ان باب الرحمة لو فتحت ، فانها تكون من الكثرة ما لا يقدر احدٌ على امساكها ومنعها عن الوصول.

{وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }

وكما ان باب رحمة الله سبحانه لو فتحت فلا ممسك لها، كذلك العكس، فلو منع الله سبحانه وتعالى سيبه على عباده ، فلا احد يقدر على ارسالها من بعده سبحانه وتعالى.

وَ هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم }

تكرر ذكر هذين الاسمين في الكثير من الايات القرآنية ، اذ انهما من الاسماء الحسنى التي ينبغي على المؤمن التأمل في ابعادها في حياته.

فماذا يعني اسم ( العزيز ) وما ذا يعني ( الحكيم)؟

ان العزة هي تلك القدرة الظاهرة على ارض الواقع ، فقد تكون هناك قوة من دون ان تطبق خارجياً ، فهذه لا تسمى عزة ، ولكن ان طبقت في الخارج فهي العزة ، ومن معانيها ايضاً الغلبة ، وهي تشير الى ما قلناه من معنى العزة ، اذ ان الغلبة هي نتيجة اظهار القوة والقدرة.

فمعنى كون الله سبحانه وتعالى عزيزاً، انه مقتدر وقد بدت قدرته في خلقه ، فها هي ايات قدرة الله سبحانه وقوته بادية في كل شيء.

والحكمة تعني العلم العملي ، فالعلم المنتهي الى عمل وسلوك يسمى بالحكمة والا فانه يبقى علماً مجرداً .

والله سبحانه وتعالى تتجلى قدرته وعلمه في الخلق ، فهو العزيز الحكيم.

وفي هذه العبارة بعض البصائر:

اولاً: ينبغي ان يزيد الواحد من رصيده في معرفة الله سبحانه وتعالى ، من خلال التأمل في اسماءه عزوجل ، فكلما ازداد معرفةً بخالقه ازداد قرباً منه وايماناً به.

ووعي معنى اسم ( العزيز ) بشكل عميق ، كفيلٌ باخراج الانسان من نفق اليأس والقنوط ، فكثير من الناس – وإن كانوا مؤمنين بالله سبحانه – يعيشون حالات اليأس من رحمة الله وقدرته ، بسبب عدم معرفتهم بخالقهم العزيز ، وجهلهم بقدرة ربهم سبحانه وتعالى.

فإن عرفوا ان ربهم ( عزيز) تقشعت عن قلوبهم سحب اليأس والنظرة السلبية الى الحياة ، و عادوا الى رحاب رحمة الله سبحانه وتعالى، فطلبوا منه ان يصلح لهم امر دنياهم واخرتهم.

ثانياً :  لا يعني كون الله سبحانه وتعالى ( عزيزاً) ان يظهر قدرته وقوته في كل شيء وفي كل زمان ومكان ، بل ان ذلك رهين حكمة الله سبحانه وتعالى ، ولهذا قرنت الاية اسمي العزيز والحكيم ، للدلالة على ان عزة الله سبحانه وتعالى لا تكون الا بحكمة.

ثالثاً: على المؤمن ان يسعى دائماً لتطبيق تجليات اسماء الله سبحانه في نفسه ، فقد تتجلى في  المؤمن بعض اسماء الله سبحانه ، بل ان الاسماء الحسنى تجلّت كاملةً في ائمة الهدى عليهم الصلاة والسلام ، فكانوا مظهر اسماء الله عزوجل.

فحينما يعي المؤمن ان الله عزيز ، فانه يكون عزيزاً في نفسه ، ويأبى لها الذل والمهانة ، حتى لو كلّف ذلك الكثير له ، بل حتى لو كلفه ذلك حياته ، فتراه يسجن ويعذب ويقتل دون ان ينتقص من كرامته ، بل يبقى كالطود شامخاً يتحدى جبروت العتاة، لأن العزة والكرامة هي اهم ما في المؤمن ، فلا يتنازل عنها بأية قيمة ، الم يقل الامام الحسين عليه السلام : (ً أَلَا وَ إِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ تَرَكَنِي بَيْنَ السَّلَّةِ وَ الذِّلَّةِ وَ هَيْهَاتَ لَهُ ذَلِكَ مِنِّي هَيْهَاتَ‏ مِنَّا الذِّلَّةُ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ لَنَا وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ حُجُورٌ طَهُرَتْ وَ جُدُودٌ طَابَتْ أَنْ يُؤْثَرَ طَاعَةُ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَام‏)[3]

ومن تجليّات العزة عند المؤمن انه لا يسأل من هو مخلوقٌ ومحتاج مثله ، بل انه يمد يد الضراعة والطلب الى رب الارباب سبحانه وتعالى.

كذلك على المؤمن ان يكون حكيماً في جميع سلوكياته وتصرفاته ، وكما قال الامام امير المؤمنين عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد : (يَا كُمَيْلُ مَا مِنْ حَرَكَةٍ إِلَّا وَ أَنْتَ مُحْتَاجٌ فِيهَا إِلَى مَعْرِفَة)[4]

تنزيل: [بصائر رمضانية 003]


[1]  الاعراف: 37

[2] النحل: 32

[3]  الاحتجاج على اهل اللجاج ( للطبرسي) : ج2 ، ص 300

[4] تحف العقول: ص 171