Search Website

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الرابع

تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون‏*

بعد ان ذكّرتنا الايتان الاولى والثانية من السورة المباركة على حقيقة هامة ، هي ان الله سبحانه وتعالى هو الفاطر لهذا الوجود والخالق لهذه الاكوان ، وهو الذي ان فتح لهم ابواب رحمته فلا ممسك لها وان امسكها فلا احد يقدر على ارسالها ، لأنه هو العزيز القدير ، يذكرنا في هذه الاية على ذات الحقيقة من جهة اخرى وهي جهة الرازقية.

ان الخالقية والرازقية هي حقيقة واحدة ، اذ ان الخالق هو الذي يرزق مخلوقاته ، ومن تأمل في هذا الخلق العظيم لعرف ان الرازق هو الفاطر ، فالرزق لا يقتصر على الطعام والشراب والملبس والمسكن ، بل ان هذه كلها جانب من جوانب الرزق ، وهناك جوانب اهم ، منها اصل وجود الانسان، ان هذا يعد رزقاً هاماً ، فخلق الله الانسان عينه الرزق لأنه رزقه نور الوجود برحمته.

بين الخلق والرزق

استغرقت فترة خلقة السموات الارض يومين ، ولكن طالت فترة بث ارزاق الخلائق في الارض الى ضعف ذلك العدد فكانت في اربعة ايام ، وهذا امر عجيب ، فكيف يمكن ان تكون اصل الخلقة تأخذ نصف زمان بث الارزاق؟

يتمكن الانسان ان يعرف بعض جوانب الاجابة عن هذا التساؤل ، ويعرف السر في هذه المفارقة ، اذا ما فتّش في الكواكب المحيطة به عن اسباب الحياة ، اذ ان العلماء جدّوا في ايجاد كوكب يحتوي على الظروف الملائمة لعيش البشر ، فزاروا القمر ، وارسلوا الاجهزة الى المريخ ، والتقطوا الصور من الزحل و.. ولكنهم لم يجدوا مكاناً يستطيع الاحياء – فضلاً عن الانسان – ان يعيش فيه ، واخيراً اكتشفوا كوكباً يحيط بشمسٍ غير شمسنا في درب التبانة ، فيها احتمالية البقاء ( مجرد احتمال ) ولكن تلك النجمة ( او الكوكب) يبعد عن الارض باربع سنوات ضوئية.

وهكذا كانت الارض مجهزة بوسائل الحياة للبشر ، فالهواء الذي يستنشقه الانسان هو رزقٌ عظيم ، والمعادن المبثوثة في الارض ، والنعم النازلة من السماء ، و.. كلها وسائل العيش الهنيء للاحياء على هذه الارض.

اذكروا الله

{ يا ايها الناس }

ان خطابات القرآن الكريم تختلف باختلاف المخاطبين ، فقد يكون الخطاب موجهاً للنبي صلى الله عليه واله ، وحينها ستكون الاوامر مختلفة عما لو توجه الخطاب للمؤمنين بقوله تعالى ( يا ايها الذين امنوا) ، وكذلك يختلف الامر عما لو تم الخطاب مع جميع الناس.

والاية هذه تحدث الناس جميعاً ، للدلالة على ان الحقيقة التي تذكر بها ليست محصورة على المؤمنين ، اذ ان ما يملكه جميع البشر – مؤمنهم وكافرهم – هو من عند الله سبحانه وتعالى ، فعليهم الاقرار به والايمان به.

{ اذكروا نعمت الله عليكم}

المراد من قوله تعالى ( اذكروا) ليس بمعنى الاعلان ، بل بمعنى التذكر.

والتذكر هو العلم بعد النسيان ، فالعلم الذي لم يسبقه معرفة لا يسمى تذكراً ، بل المراد من التذكر هو ذلك العلم الثابت في الذهن والذي اختفى خلف حجب النسيان والغفلة.

و لم يرد الخطاب القرآني بالقول ( اعلموا ) بدل ( اذكروا) لأن الحقيقة ليست حقيقةً غائبة عن فطرة البشر ، بل هم يعرفون خالقهم ورازقهم ، ولكن قد يغفلون عنه ، وحينها فهم بحاجة الى تنبيه وتذكير ذاتي او خارجي.

ولكن قد يتسائل البعض عن الحكمة في تذكر رازقية الله سبحانه وتعالى ، ونعمه علينا؟

ان في هذه التذكرة بعض الرسائل للمرء:

الاولى : ان وعي هذه الحقيقة تؤدي بالانسان بأن لا يذل نفسه ، ولا يبيع كرامته واستقلاله ، فالرازق هو الله سبحانه وتعالى ، وكم هي الروايات والقصص التي تؤكد على هذه الحقيقة ، مما  لا تدع لذي شبهة مجالاً للتشكيك والاعتراض.

الثانية: ان يفوض المؤمن اموره جميعاً الى الله سبحانه وتعالى ، حيث ان تدبير الله خيرٌ من تدبيرنا نحن لانفسنا ، وحين تلامس هذه الحقيقة روح المرء ، يكون مطمئناً بما يعطيه الله او يمنعه ، وكما قال النبي يوسف عليه السلام : ( .. إِنَّ رَبِّي لَطيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَليمُ الْحَكيم‏)[1]، الا ترى كيف ان يوسف الذي القاه اخوته في الجب ، حفظه الله من الهلاك فيها واحاله من بعد من عبد يباع بثمن بخس الى عزيزٍ لتلك البلاد؟ وهكذا فوّض النبي يوسف عليه لسلام جميع اموره الى الله سبحانه. وقد اشتهرت المقولة : ( اول العلم معرفة الجبار ، واخر العلم تفويض الامر اليه) ، ولا يصل المرء الى هذه الحقيقة الا اذا عرف رازقية الله سبحانه وتعالى.

هل من خالق غير الله يرزقكم}

وههنا دلالة اخرى على ان الخالق هو وحده الرازق دون غيره ، فالاية الشريفة قرنت بين حقيقتي الخلق والرزق ، وجعلتهما امراً واحداً.

وهذا التساؤل يبعث الانسان على البحث عن اجابة ، وحين يعجز عن الاجابة فانه يتجه بخالص قلبه الى الله سبحانه وتعالى ، ويقطع الامل عن الشركاء دونه ، وحينها سينطلق المرء في رحاب الحياة ، فلو اخرج الانسان غير الله من قلبه ، وجهه الله الى طاقاته الشخصية وقدراته من خلال معرفة انها نعم الله عزوجل ، فينقطع الامل عن الخلق ويكون التأميل بعطاء الله سبحانه وتعالى.

{ من السماء والارض}

كان يعتقد العلماء في السابق ان السماء مصدر الماء فحسب ، الا انهم اكتشفوا اخيراً ان اكثر النعم تأتي من السماء ، فاضافة الى الماء فالهواء واشعة الشمس ، كما اشعة النجوم المؤثرة في تشكيل الاحجار الكريمة – كالعقيق والفيروزج والمعادن الاخرى – كلها تأتي من السماء. وربما لهذا السبب تقدم ذكر السماء عن الارض.

ورزق الله سبحانه وتعالى للبشر من السماء والارض ، فطعام الانسان ولباسه و سائر جهات الرزق الالهي تكون في الارض.

{ لا اله الا هو}

تأكيدٌ اخر على ان لا خالق وفاطر ورازق واله سوى الله سبحانه وتعالى ، و لذلك فان الناس جميعاً – سواء كانوا مؤمنين ام جاحدين – يألهون الى الله سبحانه وتعالى ويعتقدون بوحدانيته في ساعة الشدة والابتلاء.

{ فأنى تؤفكون}

الإفك هي الكذبة المحبوكة والمخطط لها بشكل دقيق ، وقيل انها الكذبة الكبيرة ، وكلاهما صحيح ، فالكذبة الكبيرة تحتاج الى التخطيط دون صغير الكذب والافتراء.

والأية بعد ان تؤكد على رازقية الله وحده ، تسائل البشر : بأي إفك تخدعون ؟ و تسيرون خلف اي دعاية او اعلان كاذب ؟

وستذكر الاية التالية اولئك الذين يقومون بصناعة الإفك في المجتمعات الاسلامية لابعاد الناس عن الحقائق.

تنزيل: [نشرة بصائر رمضانية العدد الرابع]


[1]  يوسف : 100