
تدبرات سماحة المرجع المدرسي في سورة فاطر الدرس الخامس
05 Jun 2023بسم الله الرحمن الرحيم
وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور* يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور*
عوامل الانحراف
انتهت الاية الثالثة بقوله سبحانه وتعالى : ( فأنى تؤفكون ) ، وهو تساؤل عن السبب والدافع وراء تصديق اهل الافك والمغرضين والوضاعين.
والايات الثلاث التي تلت الاية الثالثة ، تتحدث عن اسباب انحراف الانسان عن الصراط ، وبيان لجذور التكذيب والانحراف ، ذلك الفعل الذي يصيّر الانسان من خلق في احسن تقويم الى اسفل سافلين ، فيسقطه من اعلى القمم الى حضيض الانحراف.
وعوامل الانحراف حسب هذه الايات ثلاث ، هي :
العامل الاول: الاتباع الاعمى
ان اتباع المرء للاخرين اتباعاً بلا وعي وبصيرة يؤدي به الى الانجراف في تيارات الباطل، ولتوضيح هذه الفكرة نقول : هناك ما يسمى ( روح المجتمع ) في كل مجتمع ، وتظهر هذه الروح على افكار ابناء المجتمع وتوجهاتهم واشعارهم وامثالهم و عموماً في نظرتهم تجاه الحياة وحوادثها.
ويرى الماديون ان تأثير المجتمع ( بسبب روحها) على الانسان امرٌ حتمي ، فلا يمكن للانسان ان يسير خلاف تيار المجتمع والبيئة التي هو فيها ، ومع الاسف فان هناك من يترجم هذه الافكار ويروج لها في بلداننا.
وهذه الفكرة خاطئة ، لأن من يرى الانسان من دون الاخذ بعين الاعتبار انه مالكٌ للعقل و الروح والارادة و.. ، فانه يجعل الانسان في خانة الحيوانات التي لا حول لها ولا قوة الا في سبيل اشباع الغرائز المختلفة ، ففرويد ونظريته الجنسية ، وماركس و رؤيته الاقتصادية ، ونظرة دوركايم الاجتماعية ، كلها تلتقي في النظرة الخاطئة للانسان ، حيث ينظرون الى الانسان على انه مجرد مادة ، فهو ليس بقادر على شيء ابداً ، والعوامل الخارجية ( من غرائز وضغوط البيئة) هي التي تحركه وتسيره.
بينما نظرة السماء الى هذا الانسان ، تختلف كلياً عن نظرة هؤلاء، ان الشرع يبين للانسان انه صاحب عقل قبل ان يكون صاحب شهوة ، وان ارادته اقوى من اهواءه ، وهو مستقلٌ عن مجتمعه وبيئته.
وبعبارة مختصرة ، تقوم الشرائع السماوية بايقاظ الانسان في الانسان ، ليتمكن من الانطلاق في رحاب الحياة ويتحدى كل الضغوط والظروف الصعبة.
الا ترى ، كيف أن امرأة محاطة باسوار الضغوط المختلفة تقدر على التحدي في سبيل اثبات ارادتها ، فهي امرأة اولاً ، اي انها الحلقة الاضعف في المجتمع ، ويهيمن عليها زوجها ، كما انها محكومة بحاكم متجبر ، بالاضافة الى ان طريق رزقها وحياتها يفرض عليها نمطاً من التفكير، ولكنها تحدت كل تلك الظروف ، انها اسية زوجة فرعون ، التي آمنت بالله سبحانه وتعالى وكفرت بزوجها الذي كان حاكماً عليها ومدعياً الربوبية ، وهي صمدت في سبيل عقيدتها رغم كل التهديدات والتعذيب حتى اخر لحظة من حياتها حين قالت : (… رَبِّ ابْنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّني مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمين)[1].وهكذا يبقى الانسان اقوى من المادة ومن ضغوطها.
يقول تعالى : { وان يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } ، وفي هذه الاية تسكين للنبي صلى الله عليه واله وبيان له ، بأن التكذيب امرٌ تاريخي ، فالرسل من قبلك قد جوبهوا بالتكذيب من قبل اقوامهم ، ولكن الانبياء هم من انتصر في نهاية المطاف ، لأن عاقبة الامور لله سبحانه وتعالى.
حتى ان رؤس الاعداء الذين جابهوا رسول الله صلى الله عليه واله ، انتهى بهم المطاف الى مزابل التاريخ ، ولا يزداد رسول الله صلى الله عليه واله واسمه في العالم الا علواً يوما بعد يوم.
وفي الأية بصيرة لكل مؤمن ، بأن لا يتبع الاكثرية من الناس ، ولا يكون ( امعة) فقد تكون الاكثرية – كما هو الحال في كثير من الاحيان – على خطأ ، فلا يجوز ان يكون الانسان معهم ويلقي بنفسه في الهلاك بحجة انه مع الناس.
وحتى لو مشي المرء مع الاكثرية ، فلتكن مشيته تبعاً لمعيارية الحق ، بمعنى ان يكون الحق نصب عين الانسان لا الناس والمجتمع ، وقد ورد في الحديث الشريف: ( كن في الناس ولا تكن معهم).
{ والى الله ترجع الامور}
قد تحدث اختلافات بين الناس حول مسائل مختلفة في الحياة ، دون ان يتبين المحق عن المبطل ، والصواب عن الخطأ . نعم ان هذا ممكن ، ولكن كل الامور سترجع الى الله سبحانه وتعالى وعنده يميز الحق عن الباطل.
وفي هذا درسٌ للمؤمن ، بأن لا يهلك نفسه في ان الحق معه ، بل ليدع ذلك لله سبحانه وتعالى.
العامل الثاني: المصالح الشخصية
ان مثل من يكذب بالرسالة ، مثل من يدخل غابة ملئى بالاشجار المثمرة ، الا انه يتمسك بشجرة واحدة ولا يزيل بصره عنها ، انه بهذا الامر احتجب عن رؤية الغابة بسبب شجرة واحدة.
والدنيا وما فيها كتلك الشجرة ، وما بعد الدنيا اوسع واكبر وادوم وهو افضل ، ولكن تمسك الانسان بالدنيا يحرمه عن النظر الى ذلك النعيم المقيم ، والسبب في ذلك ان الدنيا امام ناظر المرء دون الاخرة ، فيتصور الكافر ان تمسكه بالنقد خيرٌ من انتظار شيء سيأتي بعد حين ، ولكن صاحب هذا التفكير يغفل عن ان ما سيأتي ، سيكون في يوم من الايام حاضراً ، وكما في الحديث الشريف عن امير المؤمنين عليه السلام : (كُلُ آتٍ قَرِيبٌ)[2] ، او قوله عليه السلام : (كُلُ آتٍ فَكَأَنْ قَدْ كَانَ)[3]. وكفى بالموت واعظاً للمرء في ادبار الدنيا واقبال الاخرة ، لئلا يتمسك بالدنيا ويغتر بها.
{ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}
و توجه الخطاب في هذه الاية الى الناس جميعاً ، مرةً اخرى ، فالكل مقصودٌ بهذه الاية ، من اي الاديان والمذاهب كان ، فعليه ان يعلم ، بأن وعد الله سبحانه وتعالى حق ، فلمَ يغتر بالحياة الدنيا ، ويلهث وراء المصالح الشخصية ، و تكديس الثروات ، فكل ذلك لن ينفعه ابداً ، قال تعالى : { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور}.
العامل الثالث: الاغترار بالملأ
ان البعض من الناس يهيمنون على خيرات البلدان بالخديعة والمكر او الطغيان والغدر ، فيشغلون المناصب الهامة ويسيطرون على الثروات بحيث يحتاج اليهم الناس ، ويتحولون الى ملأ يملئون اعين الناس ، ان هؤلاء يقومون بدور تزوير الحقائق وتحريفها وفي مقابل هؤلاء ، هناك بعض الناس لا يمتلكون شيئاً من ثروة الحياة الدنيا ، ولكنهم يسيرون وراء هؤلاء المترفين والمسرفين.
وهذا من العوامل الخطيرة في المجتمع ، اذ ترى ان الكثير من الناس يبيعون اخرتهم لا بدنياهم ، بل بدنيا غيرهم ، كما قال الامام الحسن المجتبى لعمر بن العاص في مجلس معاوية ، : ( فَبِعْتَهُ دِينَكَ يَا خَبِيثُ بِدُنْيَا غَيْرِك).[4]
يقول تعالى : { ولا يغرنكم بالله الغرور} ، تذكيراً في الابتعاد عما يلهي عن الله وتحذيراً من كثرة طرق الانحراف والاغترار.
تنزيل: [نشرة بصائر رمضانية العدد الخامس]